ولما رأى السلطان أن الفرصة (٢١٨ أ) فاتت استدراك الفارط بغزوة قدمها وخطوة اغتنمها وجاب نابلس وأجرى إليها الخيل وجر عليها الذيل وسبى وسلب وغنم وغلب وأقام بها بياض يومه بسواد قومه حتى استخرج العسكر المغانم من المغاني وتفرقوا في أقاصي شعابها والأدانى. وفي طريق عوده نزل على سبيطه وفيها مشهد زكريا عليه السلام وقد اتخذه الفرنج كنيسة وأودعوها أقمشة نفيسة وبها من الفرنج سكان وأقساء ورهبان فغدوها بأسارى مسلمين ولاذوا بالأمان معتصمين. ثم أناخ على جنين فأهبط أوجها وهدم برجها وآب بالنهاب والسبايا والمراع والصفايا فاجتمعنا على الفوار وبادرنا بالوصول إلى دمشق للاستسعاد برسل الديوان العزيز وبرؤية شيخ الشيوخ وكان البحر متوهجاً وضرام الجو متأججاً وفشت الأمراض ووشت بالجواهر الأعراض ومرض شيخ الشيوخ فتعفف عن مواصفة الأطباء واستمر في ذلك على شيمة المتوكلين الأتقياء وقال: إن المبلى بالمرض هو المنعم بالشفاء. ومرض أيضاً شهاب الدين بشير وأصحابه وخواصه وحجابه فضجوا ومجوا وأبوا الإقامة وأبدوا السآمة وظنوا في الرحلة السلامة وقضى كثير من أصحابهم فتشا عموا بمصابه وأسفوا على شبابه والسلطان يستمهلهم خوفاً على مزاجهم ورجاء نصح علاجهم فأشفق أصحاب بشير لشدة مرضه من وفاته وأساءوا الظن بعده بعطايا السلطان وصلاته فأرادوا أن يستعجلوا نقودهم ويستعملوا نفوذهم ويجتابوا خلعهم ويرحلوا ويأخذوه معهم فما عليهم بعد ذلك ما يقضي به القدر ويقضي به بعد قضاء وطر الورد الصدر فحملوا لأجله المطمع في نفعهم مخدومهم على القدر وساء حظه الخطر وحسنوا له أن الهواء وبى وبيل وأن رسم الصحة في هذا المحل محيل فطلب بشير الإذن في الرجوع بعد استماع جواب قوله المسموع فقضى السلطان حق إكرامه وأدى فرض إجلاله وإعظامه ومد له حصناً عراباً وحجوراً عتاقاً وأطلق لأصحابه أعنة جوده على حسب اقتراحهم إطلاقاً فلما كمل لهم العطاء وكشف لهم عن ستر الراحل الغطاء رغبهم في المقام رفقاً بذوي السقام فلم يكن للأصحاء بعد استيفاء حظوظهم في اللبث حظ ولا لزمهم لأجل مرضاة مرضاهم حفظ وأصبحوا وقالوا لمريضهم الثقيل أنت اليوم في خفة وحملوه راحلين به في محفة وأجاؤا شيخ الشيوخ وهو في بحرانه للعوم في بحرهم ولفح حر وجهه في وجههم لحرهم فلم يرى أن يقعد عنهم وأن كان مرضه مقعداً وقال: إن القضاء المحتوم أن لم أدركه اليوم أدركه غداً وعاده السلطان بل تردد إليه كل يوم وليلة في الرباط بالمنبع ثم استقل مودعاً وداع الأبد ولم يعلم أن الأمل فيه منقطع الأمد وكان من سنجار حسام الدين طمان مقدم عسكرها معناً في الجهاد فأذن له السلطان في عوده إلى مقره بعسكره وأمره بمرافقة صدر الدين والرسل معه والرفق بهم في مسيرهم ومذهبهم فساروا على سمت الرحبة واغتنم الأمير طمان بركة تلك الصحبة فواجهوا مهاب السموم ودبت الأمراض فيهم مدب السموم ولما بلغ بشير إلى السخنة ووصلوا بشيخ الشيوخ إلى الرحبة وهناك لقى ربه وورد من الكوثر شربه فهو ممن رفع سريره الملايك ووضعت له في عليين الأرايك. ولما جاء السلطان نعيه ساء وعيه ولم يزل يجري على قلبه ولسانه ذكره وشكره ولم يصف لا حد كما صفا له بشره وكانت وفاته في شعبان بوأه الله الجنان.
[ذكر الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ووصوله]
مع عمه إلى دمشق وعوده إلى مصر منتصف شعبان قال: كان تقي الدين نايب عمه السلطان بمصر ولما استدعاه مع عسكرها للغزاة رتب بالديار المصرية نوابه ووصل لعمه موازراً مظاهراً وبمضاء مضاربه له مظافراً فلما وصلنا إلى دمشق حضر بها معناً وأبدى مكارمه وأبدعها بما وسعنا وبث الزند وبث الحمد وكانت بيني وبينه صداقة لصدق الاعتقاد معقودة وأثمان صنايعي في سوق صنايعه مفقودة وأنا أثبت في هذا الكتاب قصيدة ثائية مدحته بها في سادس رجب سنة ثمانين بدمشق حرصاً مني على تخليد ذكره وتعمير مجده قلت ومنها:
إذا شئتما من غير قلبي تحدثاً ... فما حل فيه الهم إلا ليلبثا
حذا شاهدي صدق على صحة ... الهوى ضناً ساكناً مني ودمعي محدثاً
(٢١٨ ب) رثى لي عدوي من جفا عيني رنا ... هيك من حال عذرى لها ممثلا
غدت دمعتي في هدب عيني كأنها ... وقد علقت فيه غريق تشبثا