قال: وجاء الخبر إلى القاهرة مع ناجين فخلع عليهم وأركبوا وأشيع بأن السلطان نصره الله وأن الفرنج خذلهم الله, وأنهم كسروا وغلبوا وركبت لأسمع حديث الناجين وكيف نصر الله المسلمين, وإذا هم يقولون أبشروا فإن السلطان وأهله سالمون وأنهم واصلوا غانمون فقلت ما بشر بسلامته إلا وقد تمت كسرة وماتم سوى بسلامته نصره وكان كما حررته. ولما قرب خرجنا إلى تلقيه ودخل القاهرة يوم الخميس منتصف الشهر ونابت سلامته مناب النصر وسيرنا بها البشاير وأنهضنا ببطاقاتها الطاير لإخراس ألسنة الأراجيف وأبدال التأمين من التخويف, فقد كانت نوبتها هايلة ووقعتها غايلة.
كتاب فاضلي عن السلطان إلى بعض الأمراء يذكر مما دفعه الله في نوبة الرملة من البلاء, نعم الله سبحانه في كل ما تصرفنا عليه توجب أن نصرف إليه شكرنا, وألطافه الجميلة في كل ما يفضي بنا إليه يقتضي أن نبلي في حبها عذرنا. ومكاتبنا إلى الأمير صادرة في يوم الخميس الخامس عشر من جمادى الآخرة عند قفولنا من الغزاة التي صرفنا الله فيها عن الكفار ليبتلي صبرنا. والعساكر المنصورة سالمة بجمهورنا مقسومة نعم الله في الكافة بين آمرها ومأمورها. وقد كانت هذه العساكر جاست خلال ديار الكفار وقاتلت البلاد وأهلها بالسيفين الحديد والنار, وحكمت القتل تحكيما عجل فيه الارتياح إلى أمر الله عن مهلة الأسار واستباحت لهم معاقل وأصابت لهم مقاتل, وشغلت العساكر كسرتها وفيها للعساكر دوما شغل شاغل.
وكانت العدو رامها مستيقظة فلم يطقها وبارزها على باب عسقلان فلم يثنها من غاية ولم يعقها بل ولاها ظهره عجلا وفر تحت الليل وجلا ثم طرقها في حال انبثاث منها وانتشار وشغل بالنهب والاغترار وتباعد من الأطلاب وخفة من رجالها وخلو من الأسلحة التي احتاجت في لباسها إلى أثقالها فقتل من العدو أضعاف المقتولة من المسلمين وكانت البادرة للكافرة والعاقبة كما وعد الله للمتقين, وسلم الله الخلق من المهالك الموحشة والمجاهل المعطشة, والظلم المدهشة والافتراقات التي منها تفلل الجيوش المجيشة حفظا لدينه ونعمة يجب شكرها على كل مسلم وإلا فإن الأعمال موبقة والسيئات موثقة والكثرة أعجبت وأعجلت والثقة بغير قادر أخجلت. ولم يفقد مع البعد في المسافة والتتبع بالمحافظة فقد الماء في القفز وعدم الأدلاء وكثير من أظهر من أمراء العسكر وأكابرها وأصاغرها إلا نفر قليل أكرمهم الله بالشهادة مقبلين غير مدبرين ومتقدمين غير متأخرين وليس منهم من لاسمه في الأسماء شهرة ولا من يعتقد العدو أن له بقتل مثله كثرة وعدنا فحملنا الضعيف والمنقطع ورفقنا في السير حتى لحق المفترق بالمجتمع والأمير يتلو كتابا على بياض الثغر وذوي هيأته ويستدعي شركتنا في شكر الله الذي هو أيسر واجباته ليسكنوا أن الأمور قايمة والعساكر سالمة والغزوات تتصل ولا تنقطع والطلبات للعدو بإذن الله تسهل ولا تمتنع وراية هذا الدين ترتفع ولا تنخفض, وأنوار هذه الملة تتسع ولا تنتقض. ولا فلت لنا والحمد لله هذه النبوة عزيما ولا أحالت منا عن طلب الكافرين غريما وما عدونا ما قال الله سبحانه (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
قال: وحيث كانت للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب في هذه الغزوة اليد البيضاء أنشدته قصيدة في سابع رجب وأولها:
جفون البيض أم بيض الجفون ... وسمر الخط أم هيف الغصون
ألا يا عاذلي دعني وشأني ... وما يجري المدامع من شئوني
فإن صبابتي داء دفين وكم ... أبقي على الداء الدفين
وحايلة الوشاح رأت جمالي ... على هوجاء حايله الوضين
(١٩٠ ب) بكت شجوا وأرزمت المطايا ... وهاج أنينها الشاجي أنيني
فلي ولها وللانضاء شجوا حنين ... في حنين في حنين
وقالت ما ظننتك قط تنوي ... مفارقتي لقد ساءت ظنوني
فقلت سراي للعليا وأني ... تخدت لها أمينا من أموني
إلى عمر بن شاهنشاه قصدي ... ثقي بغناي منه وارقبيني
ولست أرى سوى علياك تاجا ... يليق بدر مدحتي الثمين
واهتم السلطان بعد ذلك بإفاضة الجود وتفريق الموجود وانتقاد الناس بالنقود والنسايا الصادقة الوعود وتعويض ما وقف من الدواب ونفق من الغراب حتى حصلوا على أحسن منها وأجود وأحمى وأحمد.