قال: ولما نهض أصحابنا واد لجوا وخاضوا بحر الظلام ولججوا أصبح السلطان يوم الأحد راكبا ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في موكب خفيف وجمع غير كثيف ووقف على الطريق وسال الله حسن التوفيق فرأى في تلك العياض أبقارا حافلة، وسروجا عن مراتعها زايلة. وجاءه بعض الرعاة واخبر انه شاهد عسكره العداة وإنهم عبروا بالقرب على قصد المتعلقة فعجب السلطان من هذا الخبر واستبعده وقال: لو كان للفرنج قصد لجاءنا الجاسوس فما صدق الخبر حتى جاء (١٩٨ أ) من أوائل العسكر من ارتاع وعجل في العود الإسراع فجاء السلطان إلى المخيم وقت الظهر ونادى في متخلفى مماليكه بالحضور. وكان في اصطبله خيل عراب شدت للتضمير وجياد عتاق أعدت ليوم النفير فبدل مصونها وأصفى لخواصه صفونها وقال: اركبوا وأدركوا العدو وما زال ينهض مجربا وينقب منقبا حتى انتظمت له كتيبة شهباء وساروا والخضراء من وقع الحوافر ونقع الحوافر غبراء وقلقت في أشباح الغمود الاروح وجرت بالجبال الرياح وطارت العقبان مع أمثالها من الرايات، وتنزلت الملائكة من نص النصر بالآيات وجرى سيل الخيل وجر القتام على النهار ذيل الليل والسلطان في موكب جلالته كالقمر المبدر في هالته ورايد النصر يرشده بدلالته فلم يزل يعتق ويعب حتى ترى الجمعان ودنا الرعان من الرعان وصافحت الصفاح اشاحع الشجعان، وطلعت في ابراج العجاج نجوم الخرصان.
واتفق ان الفرنج حملوا وبرز ابن بارزان مقدما من مقدميهم وحمل لحملتهم وقادوا يكسفون الأنوار ويكشفون الأستار فثبت السلطان أمامهم وردهم وراءهم وتضاعف المدد وترادف العدد فحملوا حملة كادت تتم، وسر الشر متم، وطعن فيها صمصام الدين أجك وخشي إنها لا تتدارك فردهم خوف الردى إلى الجبل وضاقت عليهم واسعات الحيل ثم أحدقت بهم أسودنا أحدق النار بالجان وخاضت غمرة الهيجاء فاسر الفرنج بأسرهم وصح النصر من كسرهم, ودخل الليل فأخفى بسواده سوادهم وقيد بخواتم الذل قوادهم وما فرس فرسانهم, ولا شجي وشجب إلا شجعانهم فإن الرجالة لما شاهدوا عسكر الإسلام تبدد شملهم في الوهاد والآكام فما ضغم إلا كل ضيغم ولا أقدم إلا كل مقدم ولم يفلت من بينهم إلا الملك المجذوم وقيل أن أحدهم حمله على قفاه ثم نجا به ونجاه. وعاد السلطان إلى مخيمه بعد هدء من الليل ووافت البشاير إلى المعسكر المنصور بالنصر من العصر فجلس في سرادقه ونحن عنده جلوس وحول شمسه من الأفاضل شموس وهو يحدثنا ويقول لولا التأييد من الله سبحانه لكان الخطب خطيرا فإنهم لو بدلوا بالمعسكر لأعجلوا عن الإلجام والإسراج وسدوا على اكب مناهج الأفراج ووجدوا الفرصة بادية والعرصة خالية لكن الله تعالى صد قصدهم وأعمى لخطاياهم عمدهم ثم أذن في تقديم الاسارى وهم يتهادون كأنهم سكارى فأول من قدم ابن بارزان بادوين وقد أسره من أمرائنا الأكراد محمد بن خوشترين. ثم قدم أود مقدم الداوية الكبير وأحضر هو ابن القومصية وقيد أخو صاحب الجبيل وجماعة من مقدميهم الأكابر وأنا جالس بجنب السلطان منفردا استعرضهم بقلمي في الدستور فأجلسهم من حوله وآنستهم بقوله فاقروا بتطوله وطوله، ومن ألطاف الله أنا وخواصه الحاضرون لم نزد على عشرين والاسرا قد أنافوا على سبعين وقد انزل الله علينا السكينة وخصهم بالذلة والمسكنة فطلع الصباح ورفع المصباح فقمنا وصلينا بالوضاء الذي صلينا به العتمة ثم جلسنا حتى تم عرض المأسورين فبلغوا مائتين ونيفا وسبعين من الفرسان المقدمين سوى من أسر أسروه في خيمته وسوى من لا يذكر من الأتباع فإنهم عدوا من سقط المتاع ثم نقل الأسرى إلى دمشق واعتقلوه وبالحديد أوثقوا فإما ابن بارزان فانه بذل بعد سنة في نفسه مائة وخمسين ألف دينار وإطلاق ألف أسير من المسلمين وكان الفقيه ضياء الدين عيسى من نوبة الرملة عندهم فالتزمه راكه وان يودى من قطيعته المذكورة القطيعة التي عرف بها فكافة وأما هو فانه استفكته أمه بخمسة وخمسين ألف دينار صورية وأما أود فانه انتقل من عيشته إلى سجين فطلبت جيفته بإطلاق أسير من مقدمي المؤمنين وطال اسر الباقين فمنهم من هلك وهو عان ونمهم من خرج بأمان.