للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأطلال. وهو تواكل ويأس ثم قنوط وفناء.

أستميح القارئ معذرة إذا أسمعته في هذه الأسطر ألحان ذكريات شعرائنا البكائين. فتلك سمة أولى من سمات نفسيتنا التاريخية. ولون قديم قائم من ألوان شرقيتنا الباقية. هذه كبد السادة والسيدات من شعرائنا وشاعراتنا، السابقين والسابقات، تنفطر تحرقا وألماً في ذكراهم، وعلى ذكراهم، وهذه أفئدتهم تهلك أسىً ولوعة، ودموعهم لؤلؤ أسود في عقد حزين، يعصف وجودهم لذكرى الحلم البادي كباقي الوشم في ظاهر اليد، انه حلم بعيد يرجع إليه زهير بعد عشرين عاماً فلا يعرف الدار إلا لأيا، ولكنه يعرف سكان الدار. لا بلمسه وسمعه وشمه وذوقه، بل يراهم في نفسه فيحلم بعاطفته وقلبه، فذكراه حلم وتوهم:

وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيا عرفت الدار بعد توهم

يبكي زهير بعد التحية، تحية العرب. وبعد السلام، سلام الصباح لأم أوفى. ويمتشق عنترة الحسام، فيقتل ويشفي بالقتل من يشكو سرور الحياة، ولكنه ينعطف إلى ذكرى عبل، ويركع أمام التي في معبد الهوى، فيبكي مع الحمام منشداً:

أيا عبلَ كم يشجى فوادي بالنوى ... ويروعني صوت الغراب الأسود

كيف السلو وما سمعت صائحاً ... يندبن إلا كنتُ أول منشد

ثم يبكي الشاعر الملك امرؤ القيس، ويأمر بالبكاء، ويقف على مطيته في مسرح البادية الفسيح، ويأمر بالوقوف، فتملئ دنيا الجاهلية بالجاهليين، وتبكي الملكة الشاعرة، ولم تتوج، الخنساء تماضر، فتدوب وتسمو وتبقى خالدة فلا تموت:

يا عين جودي بدمع منك مسكوب ... لؤلؤ جال في الأسماط مثقوب

إني تذكرته، والليل معتكر ... ففي فؤادي صدع غير مشعوب

يبكي هؤلاء الناس ذكراهم، ولكل عاشق حبيب، كما بكى ابن ساعدة خليليه، سحابة عمره كاملاً، وأقام على قبريهما ليس بارحاً طوال الليالي أو يجيب صداهما.

نحن

يبكون حلماً كأن الحقيقة المثلى، وهم الناس أسلافنا، ونحن بعض منهم نتمم أجسامهم وعبقريتهم، وقوميتهم في أرواحهم، وأرواحهم في قوميتهم، زال من أحدهم واقع راهن، وحبيب مرتحل، وبقيت ذكرى الحبيب الغائب، فبكى صورة الحلم الماضي عندما وعى

<<  <  ج: ص:  >  >>