لو كنت شاعراً لأنشدت الخلود في صورة الذكرى، ولقلت مع شاعر لا أعرف أن الذكرى صورة حلم، فهي حلم الوجود الجديد يبدو في صورة لحن تنشد صغيرات بريئات في شفق الشمس على ذرى لبنان، وهي الحلم بالبقاء في صورة اصفرار يعلو وجوه سفَرْ يغرقون، وهي صلاة المستجير بآلهه والأنبياء والقديسين، وهي اندفاع اللقاء بين غائب وحاضر، وصلة الترابط بين القديم والجديد، تنسج الحاضر من خيوط الماضي، وتبقى على الحياة الحياة، فهي الثغر الجميل يدعوك إليه، والبريق في عين تصرح قتلاها بين الرصافة والجسر، إنها نزهة في ليلة حارة قمراء، وغرفة تشريح تفقد الخائف شجاعته، وهي مبضع الجراح، وزاد التلميذ، وألوان الشاعر، وحرارة تنعش أصابعك فتوحد باللمس الشفة والجبين، فالذكرى وجود الموجود، وكل مالا يتذكر وجوده لا يعود إلى وجودك، وهي نور وعاطفة وخوف ورجاء.
الذكرى بعض من الإله في روح الإنسان، فهي الهبة العليا، والمنحة السماوية. بعض القلوب تذكر فتعشق. وبعض الحب يذكر فلا يموت. وبعض النفوس تذكر ضعفها فتتسامى، ونقصا فتتكامل، ذكر (ديموستين) الألكن عجزه عن الإفصاح فأقسم ليخطبن في الناس حتى أصبح المفوَّه المصقع ذائع الصيت. وذكر (بيتهوفن) صممه فهز البشرية بأصواته وموسيقاه. بعض الأفكار تذكر ذاتها فتنسجم، وبعض الأرواح تذكر الآله فتحيا بذكراه، وتطمئن إليه، وتنزع نحوه، والذكرى عند الإنسان عاطفة وفكر معاً، لا يحيا فؤادان إلا بها، ولا يخاف عقل إلا فناءها، ولا تطلب النجاة نفس إلا بدافعها، ولا يتم بدونها وجود ولا خلود.
يأس وأمل
غير أن الذكرى في صورة البكاء مريرة سامية، تهدم وتدك، وهي عذبة منعشة في صورة الأمل، ترفع وتشيد. وأنا لا أطيق من الذكرى البكاء على الحلم. حلم ترك فلم تبق وإياه كما وددت. أو حلم تركته لأنك لم تبقيه لديك كما وددت. والبكاء وقوف بالأثافي. وجمود أمام