لعلّه من الصعب على الباحث أن يحدّد ما يشمله علم الآثار من فروعٍ عديدةٍ يندمج بعضها في بعضٍ بدرجاتٍ مختلفةٍ كالتاريخ وعلم الإنسان والفنون الجميلة، فعلم الآثار يعمل على إتمام الحقائق المستمدّة من الأدب والتاريخ منذ العصر الحجري القديم التي تطوّرت مع تقدّم البشرية، ومع ذلك ينتج أهمّية هذا العلم فيتعين العصور وكشف الألغاز التي أهمل أو طمس ذكرها فمنذ القرن الثامن عشر انتبه المؤرّخون والباحثون لأهمية هذه الناحية في دراساتهم عن تاريخ وحضارة الأمم القديمة فأسست المتاحف في أكثر البلاد المتمدّنة وأخذ العلماء في اكتشاف النقوش والكتابات والتماثيل والمناظر المصوّرة على الأواني والعملة وهي مصادرٌ تاريخيّةٌ تحدّث عن أحوال الأمم القديمة بصورةٍ لا تقبل الشّكّ والجدل، وقد توسّعت الدراسة عن العصور الماضية بفضل الاستكشافات التي ظهرت والتي ستظهر وبفضل أعمال التّنقيب والحفريّات وصيانة الآثار التي تتقدّم بصورةٍ متساويةٍ مع ارتفاع المستوى العلمي في كافّة أنحاء العالم. وقد أدهش العلماء تلك المقدرة التي كان يمتاز بها الإنسان في العصور القديمة، فالمكتشفات الأثريّة التي تكتشف الآن تدلّ على نشاطٍ وذوقٍ فنّيٍّ وقوّةٍ في التعبير وإبداعٍ في خلق الأشكال يفوق أقصى ما كان يتصوّر احتمال وجوده في تلك العصور، ومن أهمّ مصادر علم الآثار ما يعثر عليه من شظايا وأواني الفخّار القديمة التي تكاد تكون موجودةً في كلّ المناطق التي كانت آهلةً بالسكّان، وكان انتشاره واسعاً حول البحر المتوسّط، وقد درس الخبراء هذه الأشياء دراسةً وافيةً ومتواصلةً حتى استطاعوا الاستدلال بها على العصر الذي عاش بها صانعوها وعلى مبلغ تقدّمهم في شتّى الميادين الفن والحضارة والتّمدّن، ومن هنا ظهر أهميّة الآثار القديمة وضرورة الحرص على صيانتها وحفظها كمظهرٍ قوميٍّ وينبوعٍ علميٍّ يبعث فينا الحسّ الفنّي وروح الطموح وتقدير السّلَف المنتج الصّالح (وهذا أكثره مفقودٌ في برامج الدراسة) - وأقصد بذلك بعث الحثّ الفنّي في نفوس الطلاّب لتذوّقِ روعة وعظمة الآثار - فكم من كتاباتٍ أثريةٍ نفيسة تحطّمت أو طمست بدافع الإهمال والجهل وكم من عاديات فنّيّةٍ تسرّبت إلى أيدي لصوص وتجّار الآثار بثمنٍ بخس حيث تهرّب إلى الأسواق الأجنبية لتباع هناك بأغلى الأثمان،