قال الناس قديما وما زالوا يقولون: أعذب الأدب أكذبه: وكان الناس قديما وما انفكوا إلى اليوم يحرمون الكذب في الحياة ويستسيغونه في الأدب.
فالأديب الذي يكشف طوايا النفوس ويستحلي خفاياها ويعرض الأمور كما هي ويصور الوقائع كما يراها، قلما يجد أدبه رواجا ونفاقا، أما ذلك الذي يصدف الناس عن واقعهم الذميم وينسيهم وجودهم الحقيقي فهو الأديب المبدع الرائع.
فكأن الناس تواضعوا على تسمية الأدب بفن الكذب.
وليس في نيتي أن أزعم العكس وأدافع عن النقيض، وإنما أود أن ألفت الأنظار إلى علم قد لا يقل عن الأدب صدقا. . . والناس يطمئنون إليه ويثقون به ويؤمنون بصحته ويركنون إلى نصحه وموعظته، وهم يحسبون أنه سفر الحقيقة وسجل الواقع. . إلا وهو علم التاريخ، فإذا كان الأدب فن الكذب السافر فالتاريخ فن الكذب المستتر. . .
على أني لم آت بشيء جديد: ولم ألهم هذه الحقيقة كما ألهم (أرخميدس)، فللتاريخ منذ وجد التاريخ مشايعون مناصرون كما له مناوئون مندودن، وهؤلاء وأولئك كثر.
ولعل من الخير أن لا أفجاك بادئ بدء بأقوال الجادين الوقورين من خصوم التاريخ والغامزين فيه، وأن أبدأك بجد يشبه الهزل وهزل يشبه الجد حتى تتهيأ نفسك لما أريد أن أهيئها له.
لقد عرف الكاتب الأمريكي (مارك تواين) بأسلوبه العابث المستملح في جميع ما يتناوله من مواضيع، وهو في دعابته الناعمة المرحة وهزئه الساخر الضاحك يبلغ في قوة النقد ما لا يبلغه أولئك الذين يتصنعون الجد والوقار فيجمعون إلى جفوة النقد خشونة الأسلوب. والكلمات التالية مقتبسة عن محاضرة عنوانها:(فن الكذب في انحطاط)، يزعم الكاتب إنه ألقاها على جمع مهيب من شيوخ المؤرخين وهو - على رأي الكثيرين - حملة لواء الكذب الفني المرتب المشروع. . . وإنك مستنتج من هذه الكلمات أمرين جوهريين:
١ - أن الناس جميعا يكذبون في أعمالهم وأقوالهم.
٢ - أن المؤرخين يدونون أعمال الناس وأقوالهم فهم لا يدونون إلا كذبا. . . ثم ليتهم