يختلف الكثير من أهل العلم والأدب في مفهوم التاريخ هل هو علم أو فن، ولقد كان هذا الاختلاف وما زال محور نقاش طويل ومثاراًُ لجدل كثير، ولكل من الفريقين حججه. وسبب هذا الاختلاف ناجم عن أن تقدم العلوم في أواخر القرن التاسع عشر قد أدى إلى أتساع الدراسات التاريخية على أساس علمي وحبا التاريخ مفهوماً علمياً وجعل منه علماً له موضوعه وطرقه وأدوات بحثه.
على أن الصحيح الثابت، مهما بالغ أنصار التاريخ كعلم، أن التاريخ أي دراسة الحوادث البشرية الماضية لا بد له، ليرتفع إلى مصاف العلوم بمعناه الحقيقي، من أن يخضع إلى جميع مراتب المعرفة العلمية كما هي الحال في العلوم الطبيعية. غير أن هذه الصفة لا تتأتى لتاريخ إذ لا تمكن دراسة الحوادث التاريخية مباشرة، كما أن الاختبار والملاحظة والتجريب أمور غير ممكنة أثناء الدراسة التاريخية. وإذا فهم من التاريخ أنه أعادت بناء الماضي وبعثه من جديد فليس بالإمكان أن تتكرر نفس الظروف التي وقع فيها الحادث التاريخي، أضف إلى ذلك أن هذه الدراسة لا تصلنا إلى وضع قوانين عامة كالقوانين الطبيعية، ولذا فأن فهم التاريخ، على النحو الذي تفهم فيه العلوم الطبيعية فهم ضيق. وشتان بين العالم الطبيعي المؤرخ، فبين الأول يدرس الحوادث الطبيعية مباشرة في مخبره المجهز بأحسن أدوات الفن، يجرب المادة ويختبرها، نرى المؤرخ مجبراً على العمل في دراسة الحوادث التاريخية بطرق غير مباشرة خلال الوثائق التي أن سلمت من أيدي الحدثان صدفة فوصلت إليه، فلم تسلم من التغيير والتحريف والتلاعب الألفاظ والميول والأهواء.
ولذا فليس ثمة علوم تاريخية كما يقال علوم طبيعية وإنما هنالك علم يمسى علم التاريخ وليس المقصود من كلمة علم هنا أن نفهم منها ما نفهمه من العلوم الطبيعية مثلاً وإنما نفهم منها أنه يتقرب من العلم من حيث موضوعه وطريقته الإنتقادية وغايته، إلى أنه ما زال علم نقد وإيضاح لا علم ملاحظة وتجربة فهو أذن علم قاصر ألا أن له مزاعم يرمي إلى تحقيقها من حيث اكتشاف القوانين ووضع المبادئ العامة.