مهما حاول الإنسان أن ينعزل في الطبيعة وأن يفيء إلى نفسه ويخلد إلى إحساساته، فعبثاً يفعل لأن الطبيعة غير محدودة وليس لها أوّل ونهاية. فلا البحر ولا الجبل ولا الغابة بمكنتها أن تمنحنا مكاناً محصوراً نلتجئ إليه إلى رحبته الضّيقة فينقطع اتصالنا بالعالم الخارجي ونشعر براحة من وجودنا وأنفسنا في حيّز صغير من الفراغ. وأكبر الظّن أن فنّ البناء ولد من هذه الحاجة وأن الرجل الابتدائي أراد من تحديده قطعة من الأرض بجدار أحاطها به وسقف رفعه فوق هذا الجدار أن يخلق لنفسه عالماً صغيراً محدوداً خاصّاً به.
ومهما يكن فقد استطاع كلّ امرئٍ في المجتمعات الأوّليّة وفي المجتمعات الراقية أن يتّخذ لراحته جوّاً صغيراً يقوم على كتلة من التراب وعدد من الأحجار، وجعل ينظّم كلّ ذلك على شكل قلّما يتّفق والشكل الذي يبدعه رجل آخر بحيث أن شخصّيته نطبع بناءه بطابعها كما تطبع فنيّ النّحت والتّصوير اللذين يعبر بواسطتها عن خوالجه النفسية وأفكاره وأحلامه، تتبدّى خلال منشآته كما تتبدّى خلال تماثيله وتصاويره.
وفي الواقع إنّ العناصر التي يتألّف منها فنّ البناء محصورة ولا يمكن أن تتبدّل بتبدّل الأشخاص والأزمنة وتتلخّص في العمود والتّاج والعضادة والقبّة التي أوجدها الإنسان منذ أقدم الأزمنة فأصبحت مشاعاً بين البشر أجمعين، تملكها كما الإنسان منذ أقدم الأزمنة فأصبحت مشاعاً بين البشر أجمعين، تملكها سوريًة كما تملكها أمريكا ويتصرّف بها العرب كما يتصرّف بها العجم. إنّما تختلف الأبنية باختلاف مزج هذه العناصر ببعضها وبتنظيم الجدران التي تحدّد جوّها وبإقامة جهاز من الفراغات فيها من الفراغات فيها يسمح لسكّانها بتلقّي نور الشمس، وبتوزيع أقسامها الداخلية حسب رغائبهم. وفي كل هذا يفرّق إنسان عن إنسان وتختلف بيئة عن بيئة ويتميّز عصر عن عصر.
فمما لا شكّ فيه أن نفسيّات الأفراد والشعوب تظهر بوضوح خلال فن البناء وخلال الأشكال والعناصر التي يتألّف منها هذا الفنّ. فإذا نظرنا إلى أبنية المصريين القدماء وجدنا