لم يستطع الأسقف ميربيل (رجل الدين الذي تحدث عنه هوغو في مطلع البؤساء) لم يستطع التخلص من رغبة كانت ملحة فيه وعنيفة، رغم ما بذله من جهد الإرادة في سبيل إبعادها. فقد كانت نفسه تحدثه أبدا بزيارة هذا الشيخ الثوري الذي لجأ إلى ناحية منعزلة من أسقفيته وذلك بعد سقوط نابليون في واترلو وعودة الملكية إلى فرنسة، وبعد أن تشتت الثوريون في أنحاء البلاد. فهذا الأسقف الذي لم يتخلل حياته قلق ولا اضطراب مذ هجر فجأة حياة اللهو والمجون إلى حياة التقى والورع، وهذا القديس الذي تعود أن يحل ما تعرض له الحياة من مشاكلها ببساطة لا تعقيد فيها، قد أخذت نفسه في هذه الآونة تقلق وتضطرب وتتنازعها شتى المتناقضات. هي مقسمة بين نزعتين: فنزعة تتجلى فيها كنفس إنسان تواضع على ما تواضع عليه الآخرون من احترام الوضع الراهن، والخضوع للتقاليد فيندفع إلى ما يندفعون إليه من تصديق مختلف الأقوال والشائعات التي يثيرها عن قصد وتعمد من يبتغي تأمين مصالحه بتضليل الرأي العام وتشويشه. ونزعة ثانية تتجلى في شخصيته الأخرى المكتسبة، التي تفرض عليه ما تفرضه عادة على رجل الدين من واجب المساواة بين أفراد الرعية: إذ عليه هداية الضالين منها إلى السبيل السوي، كما عليه أيضاً نهيهم عن المنكرات، وكثيراً ما كانت هذه النزعة تثور في نفسه وتضطرب، فتحول نظرة الأسقف نحو الأفق، حيث يأخذ بتأمل شيء قد توارى خلف الشجر والأدغال، فيهتف حين ذاك صوت في أعماقه: هناك نفس تتخبط في ظلمة الوحدة ووحشتها لها عليك حق المؤانسة، ولكن سرعان ما كانت النزعة الأولى تكبت هذه وتنفره منها وتجعله يندفع بعواطفه مع أولئك الذين يرمون هذا الثوري بأقسى اللوم والشتائم: لقد نبذ الناس هذا الثوري العجوز وتجنبوه، فنبذه أيضاً وتجنبه. وإن هم تحدثوا عنه فبازدراء واحتقار أفلا يلمس الثورة والثورة عن ظنهم إلحاد وتمرد وقضاء على الملكية؟
وكفى بالثورة إثماً أنها حطمت النظام الذي يستمد قوته من الله وشرائعه من السماء، وحكمت بالموت على من يمثله. إنه مجرم وملحد كما كان زملاءه الذين شردوا وأقصوا