وعلى هذا النمط كانت تدور أحاديث الناس في أسقفية ميربيل حول هذا العجوز الذي اعتزلهم كما يعتزل النسر بقية الحشرات ويكمن في وكره، فلا جار ولا مار ولا زائر يقصد هذا الكوخ المرتفع الشامخ الذي انفرد عن بقية الدنيا، حتى الطريق المؤدية إليه فقد اختفت معالمها وأتى على كل أثر من آثارها أكداس الحشيش التي تكاثفت فوق دروبها.
لكنه في ذات يوم انتشرت في البلد شائعة مفادها أن الثوري اللعين قد أرسل إليه خادمه في طلب طبيب، فما كان النبأ يبلغ مسامع الأسقف ويتحققه، حتى اعتزم زيارة المريض. فإذا بلغ مسكنه بعد عسر ومشقة، نظر أمامه فرأى كوخاً صغيراً قامت من حوله بواسق الشجر وجللت جدرانه بالعرائش، التي امتدت أوراقها وانبسطت على طوله وعرضه، وإذا تقدم خطوات من الكوخ رأى عجوزاً بدت على سيمائه هيبة الشيخوخة ووقارها، جالساً أمام المدخل يبتسم للشمس التي كانت أشعتها تتلاعب بشعراته البيض وتبعثرها في الهواء، فحانت من العجوز التفاتة إذ سمع وقع خطوات تخفق في القرب منه، وإذ تبين أن القادم إنسان بشري ارتسمت على وجهه علائم تلك الدهشة التي تدخرها النفس حيناً طويلاً ثم تطلقها من محبسها عن أول مناسبة.
فخاطب رجل الثورة رجل الدين قائلاً: إنها المرة الأولى التي أرى فيها بشرياً يطأ منزلي منذ لجأت إلى هذا المكان. فمن تكون يا سيدي؟ أجابه القسيس: أنا الأسقف ميربيل لقد سمعت بهذا الاسم، أو لست أنت من يدعى سيدنا بيانفنو؟ هو ذاك يا سيدي فبسط الثوري يده للأسقف محيياً. غير أن هذا الأخير تجاهل اليد الممتدة، واقتصر على الجلوس بالقرب من الشيخ وابتدره بقوله: يسرني أن يكذب الواقع ما سمعته منذ حين، فالعافية ليست بعيدة منك، فقابل الشيخ ملاحظة الأسقف بصمت في بادئ الأمر، ثم قال: إن معرفتي اليسيرة في الطب تجعلني أقدر الساعة التي تدنو من نهايتها حياة المرء. فلا ريب عندي أن لحظاتي أصبحت معدودة، فالبرد لم يكن بالأمس قد بلغ بعد قدمي، أم اليوم فقد وصل حد الركبتين، والآن أشعر به أنه يتصاعد إلى جنبي وسوف يبلغ القلب عما قريب. على أنطك تستطيع أن تحدثني بما شئت من الأحاديث فإن هذا الأمر لا يزعجني، فقال الأسقف بلهجة التهكم والتأنيب معاً: من واجبي تهنئتك على فعلة لم ترتكبها، فأنت على الأقل ما كنت من القائلين