لم أكن منشرحة الصدر، عندما أبلغت نبأ نقلي من مدينةٍ عامرةٍ إلى قريةٍ موحشةٍ.
كنت أتصوّر أنّ الحياة في المدينة، هي حياة لينة مليئة بالراحة والهناء، وأنّ في القرية العيش الشّاقّ، والحياة الكالحة. ولكنّي ما كدت أستلم زمام العمل، وأتولّى تسجيل التّلميذات، حتّى انقلبت من معلّمةٍ رهينة الغرور، إلى أمّ كمل لها الخير والسّعد.
لقد كان للتلميذات في البلدة الكبرى أمّهاتهن، يجدن منهنّ العناية بنظافتهنّ، أمّا بنت القرية فقد كنت أشعر بحرمانها من كلّ ذلك، وأنّ النقص الذي أجده فيها، كان مما يترتّب عليّ إتمامه.
حدّثت التلميذات عن النظافة، وحدّثتهنّ عن الحياة السعيدة، وعن الفتاة المهذّبة، وجعلت أسوق لهنّ الشاهد تلو الشاهد لأوقظ فيهن دواعي الخير وأرسم لهنّ صور الجمال، حتى أشعرهنّ بأنّهنّ أصبحن لا ينعمن إلا بسعادة التّهذيب، ولا يهنان إلا بنور المعرفة.
إن أنسَ لا أنسى أول درسٍ ألقيته على التلميذات وما شعرته من بريق عيونهنّ وانتباههنّ الكامل إلى كلّ كلمةٍ أتلفّظ بها. لقد أوقدت فيهنّ شعلة الشوق، ولا أنسى حالة التلميذات: ألبستهنّ، وشعورهنّ، وأظافرهنّ، في أوّل درسٍ جئن به إلى المدرسة، وما غدون عليه في اليوم الثاني من نظافةٍ ونشاطٍ وهدوءٍ وانتظامٍ.
يفخر المصوّر بلوحةٍ أتمّها فأحسن التصوير، ويشعر النّحات بسعادته كاملةً إن أتمّ تمثالاً من إبداع خياله، ويتغنّى الشاعر إن أنشد قصيدةً. ولكن أين تلك الصورة، وأين ذلك التمثال، وأين هاتيكم الكلمات من الصور الحيّة، والتمثال الناطق، والألفاظ إلي هي معاني حية متحرّكة في الوجود؟. .
إنّ المعلّمة بمفردها يرتفع لها الميزان، ولها عليهم جميعهم الرجحان، فكيف بالمعلّمة الأم؟. .
يا الله!. . . إنني لن أستطيع بعد اليوم أن أترك قريتي أو أهجر بناتي، فلقد اكتملت لي سعادتي، وتمّت لي الحسنى وزيادة. وكان مدار سعادتي وموطن ابتهاجي أن غدوت معلّمةً. . . وغدوت أُمّاً: أُمَّاً بالروح.