للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجهة التربية في إنكلترا]

الأستاذ خلدون الكناني

التصدي لهذا الموضوع في مقال واحد، ليس في الحقيقة، محاولة عسيرة بل (مخاطرة). وكاتب هذا البحث يعلم أنه لن يستطيع لمه من أطرافه إلا بإسقاط أمور كثيرة لها شأنها في دراسة متجهات التربية والتعليم في بلاد الإنكليز والاقتصار على ما برز منها واشرأب للعيان. وفائدة هذه الموضوع لا تأتي فحسب من أنه عرض لقضية التربية في دولة عريقة في الثقافة، تتولى اليوم مع بعض الدول الأخرى زعامة العالم، وإنما تأتي أيضاً من أن كثيراً من مشكلات التعليم في إنكلترا من الأمور التي تشغل بال المثقفين والقائمين على شؤون التربية في وطننا. وهذه المشكلات - حينما وجدت_إرث الماضي ووليدة التطور، ولابد في فهمها من استرجاع الماضي ولو في لمحة خاطفة.

كانت التربية الإنكليزية في القرون الوسطى دينية صرفا، تعنى بتربية الروح وتغذية أكثر مما تعنى بتثقيف العقل وتعليمه. غير أنها كانت تفهم الروح والطبيعة الإنسانية فهما خاصا غريبا وتعتقد أن الأصل فيهما الشر والفساد. لذا استصوبت الضرب والتعذيب الجسدي في المدارس وصرفت همها لا إلى تعليم الطالب (ما ينبغي) أن يفعله في الحياة - بل (ما لا ينبغي) أن يفعله، فغلت يديه ووأدت حريته ونشاطه. إلى جانب هذه المدارس الدينية قامت في قصور الرؤساء وبروج الحكام مدارس تعلم الفروسية كما كان يتعلمها العرب في البادية، وتغذي النفوس الوليدة بقصص شبيهة بقصص عنترة والهلالي تنشئ النفس على حب المغامرة والبطولة ونصرة الضعيف. ولعل المصانع في تلك العصور وبيوت أرباب الحرف كانت_مع بعض التجوز - ضربا ثالثا من المدارس يتعلم فيها التلميذ الحرفة من الأستاذ بالممارسة والملازمة وطول الصحبة. وشر سمات التربية في تلك القرون أن الثقافة والتربية كانتا من حظ الطبقات الخاصة الرفيعة، من حظ أبناء الأشراف الذين جاؤوا إلى الدنيا وفي فمهم قطعة من الحلوى.

فلما جاء عصر النهضة وبعثت الثقافة اليونانية والرومانية من مرقدها قامت إلى جانب تلك المدارس مدارس جديدة تعنى بالتعليم وتزويد الطلاب بالمعارف أكثر مما تعنى بالتربية، وتعتقد أن الهدف الأسمى للثقافة معرفة حضارة الرومان واليونان ليس غير، سواء أاتصلت

<<  <  ج: ص:  >  >>