إننا في بلد لم يأخذ بعد شعوراً واضحاً بوجوده المسلكي المهني فكل منا إنما يحصل على مهنته عن طريق العادة الآلية التي لا ينيرها التفكير إلا بقبس ضئيل ومن حين إلى حين. ولو أننا استثنينا بعض المهن كالطب والصيدلة والمحاماة فإننا لنجد غيرها كالتجارة والزراعة والصناعة إنما نتوصل للاختصاص بها عن طريق التجارب الخبرية دون أن يكون للعلم يد في إعطائنا ذلك القالب الاختصاصي وصبغنا بذلك اللون المهني.
قد يقال: ألست بهذا تنكر الأهمية البالغة لما قامت وتقوم به مدارس التجارة والصناعة ومدرسة الزراعة من أثر علمي فعال في هذا الحقل أي حقل التخصص بهذه الفعاليات المسلكية عن طريق الدراسات النظرية والعملية؟ إنني لا أنكر ذلك ولا أتغاضى عنه إلا أنني إن أنكرت فإنما أنكر القيمة الرفيعة التي يمكن أن تعطيها مدرسة تجارية أو صناعية أو زراعية لطالب ذو ثقافة ابتدائية ولما يحصل بعد بها إلا على قدر ضئيل من العلم، فهم المدرسة الوحيدة لا بد وأن يكون خلال السنوات الثلاثة التي يقضيها الطالب بين جدرانها موزعاً بين دراسات ثقافية بها ترفع سويته العالمية وأخرى مسلكية. فهل بالإمكان أن يتملك شخص ما من مهنته بصورة جيدة وأن يفهم أسرارها العميقة ومقوماتها النظرية والعملية خلال تلك المدة القصيرة سيما وأن ثقافته العامة قد تستوعب شطراً كبيراً من هذا الوقت مما لا يبقى معه للدراسات المسلكية إلا القسم الطفيف؟
إننا نشعر ويشعر معنا المفكرون الناجحون من أبناء هذه الأمة أن الدراسات المسلكية لدينا ضعيفة المستوى من الوجهتين النظرية والعملية. فهي لا تخلق عند الشخص المتخصص الشعور الواضح النير بوجوده المسلكي وانصهار شخصيته به مما يجعله لأقل ارتطام بصعوبات الحياة القائمة يتخلى عن هذا الطابع المسلكي الذي به انخرط في أول حياته ليفتش عن طابع آخر في مهنة التعليم أو في وظائف الدولة أو في غيرها ليؤمن بذلك حياته ومستقبله، وبهذا نرى أنه ينقصنا ذلك الإيمان وتلك العقيدة بالمهنة ولاسيما عند أولئك المتخصصين بهذه الفروع الثلاثة.
والدواء الناجع الوحيد الذي يمكننا به أن نخرج كأمة ناشئة من هذا المأزق الحرج وأن