ترى في شبابنا اليوم هيئاتٍ وأفراداً وحلقاتٍ وجماعاتٍ وكتّاباً وأدباء لولا أنّهم يتنفّسون من هواء أيامنا هذه لما أثبت شيءٌ آخر أنهم يعيشون في القرن العشرين. . . آراؤهم وأفكارهم ونهجهم ودوافع أعمالهم وأساليب تصرّفهم كلّها عليها عنكبوت الماضي الغابر. . . ولكن لا يلبث المرء أن يبدي أسفه على ذلك الماضي حينما يسمح لهم بالدول إليه،،، فهم لا يعيشون في الماضي وإنّما أوهام الماضي وضلاله وباطله. . . ولو أنّهم يعيشون بحقائقه المثلى لكان لهم بعض العذر وإنّما هم يبكون على ديارٍ ابتعدوا عنها. . . وإذا هم يقضون أوقاتهم في البكاء عليها والالتفات إليها لا يرون متّسعاً من الوقت للعمل على بناء دارٍ جديدةٍ يسكنونها. . وهكذا يبقون ضعفاء مشرّدين بلا مسكنٍ ولا مأوى. . .
وإنّ من أهمّ سيئات التفاتنا إلى الماضي وعيشنا دوماً فيه أننا خلقنا له في نفوسنا صورةً مبلورةً لامعةً وهميّةً تكاد تكون غير مرتبطةٍ بالعوامل الزمنية وأصبحنا نجد في تلك الصورة المبلورة عزاءً وارتخاءً يمنعانا غالباً من تحقيق أيّ عملٍ جدّيٍّ في سبيل تحسين الحاضر. . .
إذا حادثت رجلاً عاديّاً عندنا عن تدخّلات الأجانب في بلادنا مثلاً وضرورة معالجتها لا تجد إلا وقد انحدر حديثك إلى في نفسه بصورةٍ طبيعيةٍ إلى أيام أبي بكرٍ وعثمان وعليّ. . . وأيام طارقٍ وموسى. . . أيام الرحمة والعدل والكرم والسّخاء. . وقد يطوف بك على صلاح الدين ثم يعرّج على هارون الرشيد بفعل ذلك دون أن يحاول التّفتيش عن حلٍّ عمليٍّ لتدبير الصعوبة المبحوث عنها في الحاضر. . .
وهكذا تضيع وإيّاه في أجواء لا تستلزمها الفكرة ولا يقتضيها الموضوع الذي تعالجه وإياه ولا تعود من بحثك معه بنتيجةٍ عمليّةٍ. . .
إنّ مقياس منطق الأمة هو منطق أفرداها العاديين، وإنّ انحراف منطق العاديين عندنا نحو الراحة الشخصية والفرار من الجهد والمصلحة لأمرٌ خطرٌ لا يبشّر بدعنا إلى اتّجاهاتٍ قوميّةٍ. . .
إنّ نغمة التّحدّث عن حسنات الماضي لأنّه ماضي فحسب تجعل من ماضينا منعطفاً هائلاً