وإذا فكّرنا جدّياً في الموضوع رأينا أنّ لأغلب الناس عندنا عذراً واضحاً في اتّباع هذا الأسلوب الفكريّ. . . فالطبيعة الإنسانية تحب الراحة والفرار من الجهد والانفلات من الصعوبات المتعبة، فأنت حينما تطرق موضوعاً صعب العلاج وثمين التضحية تميل بك غرائز الخمول والضّعف إلى الفرار من جهد معالجة الواقع القاسي بالالتجاء إلى تلك الفسحة الواسعة الكائنة في صورة الماضي القوي الغابر. . .
إنّ رأيي الشخصي هو أنّ الماضي القوي أو التاريخ القوي يزيد الشعب الواعي قوّةً كما يزيد الشعب الجاهل انحلالاً وضلالاً. فالماضي القويّ للأمة الضّعيفة في نظري هو ميزابٌ واسعٌ لشلّ إمكانيّاتها الحاضرة وتصريف استعدادها الراهن للعمل. . . ذلك لأنّ الشعب الضعيف في الحاضر ينظر من الأسفل إلى منارة ماضيه القوي فلا يستطيع ان يبصرها بتدقيقٍ وتحقيقٍ ولا أن يتّجه صوب منارة تطوّره الزّمني لأنّ منارته الأولى لا تسمح له بالابتعاد عن أوارها. . .
أما إذا وعت الأمة أنّ اتّجاه قابليّاتها نحو ماضيها يستنفذ أكثر طاقتها فليس بالصعب على قادة الفكر فيها أن ينظّموا حملةً واسعةً يستطيعون معها سدّ الثّغرة والالتفات إلى الأمام والاعتبار بالماضي كتجربةٍ مثبتةٍ لنجاح جهود الحاضر والمستقبل. . .
وليست دعوتنا هذه إلى تبديل عقليّة الماضي والوقوف وجهاً لوجه مع الحياة المعاصرة. . . أقول ليست هذه الدعوة نظرية غريبة ولا مستهجنة. . . إنّها فكرةٌ ممكنةٌ وقابلةٌ للتّحقيق إذا اتّبعنا المناهج الخاصّة بمعالجة أحوالنا وإذا أخلصنا في تنفيذ ما يناسبنا منها. . .
إنّ صلة الجيل العربي الجديد بماضيه يجب أن تكون في نظري كصلة مهاجرينا العرب إلى أمريكا به. . . يتمثّلون من ماضيهم ما ينسجم وروح العصر فقط. تاركين له أساليبه وإطاراته وزخرفاته السطحيّة وسيئاته وقدمه. . .
لقد عرفت بعض الكهول العائدين من هرتهم من أمريكا إلى سوريّتهم فرأيتهم أشخاصاً طيّبين مدنيين عمليين يحبّون أمّتهم حبّاً متغلغلاً في سلوكهم ويمجّدون تاريخها، ولكنّهم لا يضيعون مثلنا في تلك الصورة الماضية مطلقاً فإنّ لهم إلى جانب صور ماضيهم التّذكاريّة صورة حياةٍ عصريةٍ عمليةٍ كبرى فيها كلّ أعمالهم وشؤونهم في الحاضر. . . إنّهم يعتزّون