منذ أن وجدت الإنسانية وعيها، أبدعت مفهوم المدينة واتخذته هدفاً أعلى لها، وغاية قصوى، بما آمنت، وفي سبيل تحقيقها بذلت، ولا تزال تبذل، كل جهد وعناء.
المجتمع
ومن تعهد تاريخ الأفكار البشرية بالبحث، والإمعان، عرف أن الإنسان كان ينعم بالعمل ويحيا حياة الطبيعة الأولى، تقوده غرائزه، وتسيره قناعته بالوجود فحسب، شأنه الحيوان الأعجم، لا فرق بين هنائهما الطبيعي، ولا اختلاف في وسائلهما الابتدائية الرامية إلى تأمين الغذاء والدفء والسكن. غير أن ممارسة الحياة_صيما الحياة الاجتماعية_نقل الإنسان تدريجيا من نعيم السذاجة إلى شقاء الفكر.
وتفصيل ذلك أن اشتراك الناس في اجتماعياً بتأمين حاجاتهم دفعهم إلى التنافس والنزاع والاختلافات. ولولا اختلاف البشر وتنازعهم منذ القدم لما تم انفصالهم عن سائر الحيوانات الراقية أولا_وفيها أنواع تعيش بصورة اجتماعية_ولولا اختلافهم وتنازعهم لما صح انقسامهم إلى أمم وقبائل وشعوب وأسر، ولولا هذا وذاك لما امتازت البشرية بأفراد عظام. . . .
وأن كان العقل البشري لا يطمئن سارعاً لصحة هذا التفسير إلا إذا اطلعنا على السر الخفي فيه، فإننا نجهر بهذا السر دون إبطاء. فنقول أن أفراد الجماعات الإنسانية كانوا_وما زالوا_يتساوون من حيث طبيعة التركيب العضوي والحاجات العامة والوظائف الحيوية المشتركة. وكان سلاح كل واحد منهم اليد ثم الفكر. ولم تكن الفروق الفردية بين الناس ذات أثر يفوق ما نشاهده اليوم من فروق بين الأفراد.
وهذا التساوي في الحاجات وفي الوسائل جعل قاموس حياة الإنسان يدور حول تنمية ما يفرق به أحدهم عن أخيه ضمن الإطار الاجتماعي العام، إلى أن غدت غريزة الوجود والبقاء عاجزة_وحدها عن أرضاء الإنسان الاجتماعي، فمال كل واحد إلى الاستثمار بالوجود، والحرص على البقاء الجيد، وصبا الناس عن القناعة بالوجود فحسب وأخذوا يتبارون في التفوق، وأبدعوا في التفكير مفاهيم مجردة للحياة تعلو على الطراز الحيواني