أن جدرانها من أسفلها إلى أعلاها مبنيّة بأحجارها كبيرة ملساء، يخيل للمرء إذا تقرّب منها أنّه يدفع عنها بقوّة خفيّة مع أنّها بحذق ومهارة ومنطق لا غبار عليه، ولا ريب أن هذا كمالها هذا يجعلنا نشعر بإحساس بارد يوقفنا على عتبتها ويمنعنا من النّفوذ إلى داخلها، فمن المحقّق أنّه لكي يستطيع امرؤٌ أن ينفذ إلى داخل منزل أو آبدة لا يتحتّم عليه أن يجد بابه مفتوحاً فقط بل يجب أن يشعر أنّه سيستقبل ويلقى فيه كلّ ترحاب، وكما قلنا أنّ الجدار المصري القديم أملس ومغلق يسقط كأنه جاهز بين سكّان الآبدة المصرية وبين العالم الخارجيّ فيمنعهما من إقامة أي اتصال كان.
وقد رأى بعض الباحثين أن في فنّ البناء الفرعونيّ تعبيراً عن الفزع الذي كان يشعر الرجل المصري القديم والذي كان يدفعه إلى البحث عن وسائل تؤمّن له الخلود، وأنّه يحوي عناصر تعاكس الطّبيعة وتطوّر البشريّة. نحن وإن كنّا نرى هذا الرّأي تماماّ إلا أننا نشارك أصحابه بأن المصريين كانوا يتوحّدون من إشادة أوابدهم أن يهربوا بواسطتها من مصير كلّ البشر وأن يوجدوا لأنفسهم ملاجئ تعصمهم من الفناء وتبقيهم لا في قيد الحياة بل في قيد الموت. والأهرام والمصاطب والمدافن المصريّة التي تعب بإنشائها سكّان وادي النيل القدماء شاهدةٌ حتّى يومنا هذا على سيادة الموت ونكران الحياة.
ثمّ أننّا إذا دخلنا إلى داخل أكثر المعابد المصريّة ولا سيّما معبد الإمبراطوريّة الحديثة لوجدنا أنّ النور الذي هو عنصر الجمال الأساسي في الفضاء لا يصل إليها، فالأعمدة وتيجانها أشكال صلبة متجمّدة ومتراصّة لا حياة فيها، لا يستطيع المرء أن ينفذ بينها بسهولة ويضطّر للتوقّف لأنّ المسافة بين عمود وآخر صغيرة، والطّوق والنوافذ في الجدران قليلة ولا تسمح بإضاءتها إلاّ بشحّ زائد. أمّا داخلها المختصّ بعيادة الكهّان وخلوة الفراعنة مع الآلهة فهو موشّح رهيب، يفصل المرء عن العالم الخارجي. ويخيّم عليه سكون القبر العميق.
ولا ريب أنّ أكثر فنون البناء القديمة تشارك فنّ البناء المصري في صنعته الموحشة هذه وما وصلنا من آثار لفنون السّومرييّن والبابليين والحثّيين والفينيقيين لا يجعلنا نبدّل هذا الإحساس. وهناك أبنية أخرى أقرب من المتقدّمة عهداً تعبّر وتتكلّم بنفس اللغة فمنشآت الفنّ الرّوسي الذي سبق في أوروبا الفنّ القوطيّ وازدهر خلال القرن الثامن عشر الميلادي