تمثّل حياة الرهبان الخشنة الذين عملوا على إشادتها، وتنمّ عن رغبتهم في التّقشّف والنزوع إلى مثل أعلى ديني مطلق. لذا فإن الأحجار التي بنيت منها ليس فيها حياة، على حين أنّ الأحجار في بعض الفنون التي عاصرتها تؤلّف عنصراً حياً يشعّ بالفرح والضّياء كما هو الحال في الفنّ الأندلسي العربي.
ويتحوّل أحياناً الشعور بالخوف الذي تلهمنا إيّاه مبتكرات فنون البناء القديم إلى شعور عنيف مشابه للقلق والإطراب والبحر الذي ينتاب النفس ويسدّ عليها مسالكها كما يظهر ذلك لذا تأمل بعض الأوابد الهنديّة القديمة. وفي الواقع إذا كان فنّ البناء الفرعوني القديم تّصف ببرودته ويمنع منطقه العقلي كلّ شعورً وتحسسّ إلاّ بعاطفة الخوف فإنّ فنّ البناء الهندي القديم يختلف عنه كلّ الاختلاف فأوابده ومخلّفاته مشبعة بحياة غريبة حارّة تشبه طبيعة البلاد التي نشأت فيها. وهي تنتصب أمام من يتأمّلها كأنّها الهمّ الكبير يجده صاحبه أنّى اتَّجَه أو الكابوس الذي لا سبيل إلى الخلاص منه. وتقدّم إليه أشكالاً محدّبةً كبيرةً وغنيّةً تجعله يتنفّس في جوٍ من الحيرة والدّهشة والقلق لا حدّ له. وما ذلك إلاّ لأنّ نسبها كبيرة تنشر باتساع ما تحويه من أشكال مرعبة مخيفة مؤلّفة غالباً من رؤوسٍ ضخمةٍ حقيقيّةٍ وغير حقيقيّة. ويلقي داخل المعبد الرّوع في النّفوس كخارجه فيشعر المرء وهو يلج بابه أنّه قد ملكته قوّة غريبة سيطرت على حواسّه فتتعسّر أنفاسه إليه أنّه مجذوب ومدفوع في آن واحد وغارق في خضمٍ لا نهاية له. على أنّ الإنسان لم يبدع فقط أشكال الخوف والوجل والعذاب في فنّ أبنائه، فقد عبّر في مبتكراته أيضاً عن الفرح والإشراق والهناء حاذفاً منها كلّ ما يوحي إلى النّفس بالكآبة والحزن والاضطراب. فثقب الجدران بفتحات كبيرة وأدخل إلى داخل أبنيته الضّياء والهواء. والمعبد اليونانيّ القديم أحسن الأمثلة التي تساق في هذا المقام عن الأوابد التي تعبّر عن السعادة والتطلُّع الباسم إلى الحياة. وهو كما قال بعضهم ليس قائماً على أعمدةٍ بل على موكبٍ من الرجال الأحياء يلفّهم النّور والهواء فيؤلّفون لحناًً حيّاً تنسجم نغماته وأيّ انسجام. هذا وبناؤه موجّهٌ كلّه إلى الخارج فالعواميد محفورةٌ بأخاديد شاقوليّة مستقيمة يلعب بها النّور، وداخله مفتوح وغير مغلق، فيه شيءٌ كثيرٌ من سعة العالم وجماله، ويتصفّى فيه الضّياء خلال مصفاةٍ دقيقةٍ. فيرى إلى جانب النّور الوضّاح شبه الظّل ثمّ الظلّ كلحنٍ موسيقيٍّ عذبٍ تضمحلّ نغماته شيئاً فشيئاً. وقد