اقتضى نشوء اليوناني تحررّاً مطلقاً من كلّ خوف وكلّ قلقٍ توازناً مدهشاً بين كلّ العناصر البنائيّة وسعادةً نَعِمَ بها الإغريق ردحاً منّ الزّمن، فعبّروا عن كلّ هذا بخطوطٍ أفقيةٍ لها اتّزان داخليّ معجب دون أن يكون لها في الخارج أشكال غنيّة كثيرة. ولا يمكن أن يشاهد هذه الموسيقى المتجمّدة ومثل اتساقها الساحر إلا في عهدٍ آخر اكتملت فيه ملكات الفرد وتحررّ خياله وجعل يبني البناء وذلك في عصر النّهضة الإيطاليّة في النّصف الثّاني من القرن الخامس عشر وأوائل القرن السّادس عشر. ولا ريب أن الأشكال التي تتّصف بمثل هذه البساطة وهذا الجمال نادرةٌ. إلاّ أنّه يوجد نوع آخر من الأبنية جميلة وقويّة بآن واحد. وذلك لوجود اندفاع داخليّ قويّ فيها يهيمن على أشكالها ويمنحها صفة خاصّة. وتختصّ بأنه لا يوجد فيها توازن البتّة، وأنّ خطوطها غير أفقيّة بل عموديّة تسمح للمرء أن يصعد إلى السّماء أجنحة غريزتّه. والفنّ القوطيّ مثل جميل عن هذا الاندفاع، وقد أملأ بآثاره المعجبة أوربا الغربيّة والشّماليّة. وتحمل كاندرائيّات رانس وستراسبورغ وكولونيا وبامبرغ وغيرها دروساً بليغة فيها منطق ووضوح ورجولة ونزعة شرقيّة وكثير من الجنين ينمّ عنها كلّها التي تطاول السّماء وتماثيلها الحيّة وزجاج نوافذها الملّون. أمّا فنّ البناء العربيّ الذي علّم فنّ البناء القوطيّ شيئاً كثيراً من نظريّاته فهو فنٌّ فيه الكثير من السحر الأخّاذّ والرّوعة الفتّانة. فخارج البناء يدلّ على داخله وهو يجذبك من بعيد ويدعوك إلى الدخول إليه يدعو الهواء والضياء اللذين ينشرهما في غزارة وعن سعة قلّما أن توجد في أي بناء آخر في العالم، ويستقبلك استقبالاً عذباً ويؤنسك فلا تشعر فيه بأيّة وحشة. وأنت هنا أمام نفسيّة جديدة، فالعمود ليس له قاعدة ويستند مباشرة على الأرض، والخطوط أفقيّة أو محدّبة تلقي في النّفوس شيئاً كثيراً من الأحاسيس الحلوة. فإذا دخلنا إلى مسجدٍ فإنّنا نشعر بمشاعر خفيّة لأنّ الفراغ هنا لا يهرب إلى السّماء كما هو الأمر في البناء القوطيّ ولا ينحصر الأمر في بقيّة الفنون الشّرقيّة، إنّه فراغ متّزنُ ولا يرفع المرء ولا يدفعه إلى خارج البناء بل يلقي في نفسه كثيراً من الراحة والطمأنينة ويفتح أمام عينيه عالم الأحلام بما فيه من أقواس منسّقةٍ تنسيقاً جميلاً كأنّها وجدت لقياس الفراغ، وترجع ألحاناً تردّدهما بنسقها الرتيب وبعذوبةٍ كلّية.
ويقوّي هذا الشعور في أنفسنا إذا دخلنا إلى منزل عربيّ. ففيه ماء وخضرة وهدوءٌ تمنحنا