للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجداناً شعريّاً عذباً، وفيه أروقةٌ خفيفةٌ هوائيّةٌ ذات أعمدةٍ دقيقةٍ تساعدنا على مفارقة أرض الحقيقة والتّحليق في سماء الخيال. ونحن لا نحفظ عنها إلاّ انطباعاتٍ نفسيّةً هي أشبه بالأشكال التي يراها المرء في الأحلام. وما ذلك إلاّ لأنّ إطاراتها غير محدودةٍ ولا واضحةٍ، وأقواسها اللطيفة مسنّنة كالأزهار تزركش الفضاء وتقسمه إلى زخارف يضيع بتأمّلها الخيال مسّه بالواقع.

واستناداً على ما تقدّم فإننّا نستطيع أن ننقل أحاسيسنا في فنّ البناء إلى لغة تصويرية. وكما فعل الشاعر الإفرنسي الرمزي (بودلير) في إحدى قصائده في الرمز إلى الأشياء ببعض الألوان فإننا نقول إن فنون البناء الشرقيّة ولا سيّما فنّ البناء المصريّ يجعلنا نفكّر باللون الأسود بعدها عن الحياة. ويذكّرنا باللون الأحمر جو الفزع والقلق والاختناق الذي تنشره أبنية الفنّ الهندي القديم بما فيها من أشكال تشبه الرّؤوس الآدميّة فتبعث اندفاعات نفسيّة حاميّة بتدافعها وتعاقبها وتجمعها دون توقّفٍ ولا راحةٍ كأنّها حركة اللهيب. وترسم المعابد اليونانيّة أمام أعيننا بإشراقها وضحكها وسعادتها لون الشمس الأصفر الذهبي. أمّا الأبنية القوطيّة والأبنية العربية فهي تبعث التأمّل باللون الأزرق الصافي لأنّ الأولى تطاول السماء باندفاعها الداخلي والثانية تجعلنا نحلّق فوق أجنحة الخيال إلى الجوزاء.

ونصل أخيراً إلى فنّ بناءٍ يتّجه اتّجاهاً خاصّاً فتبقى جذوره مغروسةً في الواقع ويختلف عن كلّ ما تقدّم. وهو فنّ البناء المعاصر الذي لا يبحث الإنسان خلال منشآته عن ملجأ يعصمه من أعراض الطبيعة بل إنّه يسعى إلى سيادتها والاستيلاء عليها والنّظر إليها من علٍ. ويكفينا أن نجتاز بعض شوارع مدينة دمشق أو القاهرة الجديدة حتى نشعر أنّ الإنسان المعاصر قد ساد الأرض وتحكّم في الفراغ. فمواضع الأبنية قد خصّصت في أمكنة معيّنة من الفراغ حسب تخطيطات وتصميمات سابقة. ثمّ وصل بينها بشوارع ضخمة طويلة تضيف خضرة الأشجار والحدائق المغروسة على جانبيها أو في وسطها، جمال الطّبيعة إلى جمال الفن. ولا يسع المرء تلقاءها إلاّ أن يشعر أنّه في عالمٍ منظّمٍ لا محلّ فيه للخيال الجوّال التّائه. وغير خافٍ أنّ التّصرّف في الفراغ على هذا الشّكل يسمح للفنّان أن عبّر عن شخصيّته وأن يظهر خوالج نفسه الخفيّة كما يسمح لشعبنا أن يظهر خصائصه العّامّة.

والخلاصة أنّ الإنسان يغيّر صفات الحجر ويستطيع أن يعبّر بواسطته عن حالات نفسيّة

<<  <  ج: ص:  >  >>