وبذلك تفقد البلاد إلى الأبد كنوزاً لا يمكن تعويضها. هذه مصر، فتكاد أن تكون قضيّة تمثال رأس نفرتيتي من أهمّ القضايا القوميّة فيها، إذ تعمل الحكومة بإصرارٍ واهتمام لإرجاعه من متحف بافاريا في ألمانيا إلى مكانه في المتحف المصري. فالاهتمام بعلم الآثار وصيانة الأماكن والعاديات واجبٌ مفروضٌ على كلّ من يقدّر القيمة العلم والثقافة والنشاط في هذا السبيل جهادٌ قوميٌّ ينير صفحات التاريخ ويكشف عن أمجادٍ كثيرةٍ أهمل التاريخ ذكرها أو حرّف الكثير من حقائقها، وليس هذا بكثيرٍ على بلادٍ يمتدّ تاريخها إلى مدى بعيد يجعل منها مورداً ممتازاً في نظر كلّ من تستهويه المعارف والذّكريات التاريخية للتّنوّع العظيم في مواردها الثقافية. وإنّ من الملموس لدى القارئ العربيّ ذلك الغموض الكثيف في بعض نواحي تاريخ بلادنا المجيد فأكثر المؤرّخين الإفرنج يتحدّثون عن أجدادنا القدماء كأمّةٍ بدويّةٍ عاشت على الفطرة يئِدون البنات وينتهكون الحرمات ويقتلون ويتناهبون منذ أقدم عصورهم متناسين أنّ العرب كأمّةٍ قديمة العهد بالوجود عاصرت أعرق الأمم في المدنيّة لا يمكن أن يكونوا على مثل هذه الحال التي يذكرونها، كما أنّه لا يوجد في الكون أمّةٌ من الأمم التي عاصرت العرب لم يتقوّض عمرانها ولم تتبدّل في موطنها الأرض غير الأرض، فلا يبقى أمام الباحث المدهوش من أقوال أولئك المؤرّخين ألا يفتّش على الدلائل المحسوسة التي تكشف اللثام عن حياة أمّةٍ مجيدةٍ من أقدم الأمم ليست كما يتحدّث عنها أولئك المنحرفون عن جادّة الحقائق من الكاتبين ذوي النزعات الاستعماريّة، بل أمةٌ كانت لها حياةٌ حضريةٌ قارةٌ ونظامٌ اجتماعي واقتصادي ودولٌ منظّمة، وكان عمرو بن العلاء يقول: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلّه ولو جاءكم وافرٌ لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ كما أنّ شيخ التاريخ العلامة ابن خلدون يقرر ما كان للعرب من الملك والحضارة وقد طال أمد ملكهم وازدهرت تجارتهم وصناعتهم فلم تبلُ ببلى الدولة وكانت المعارف الفكرية والعلوم الأدبيّة مزدهرةً ازدهاراً عظيماً، وقد اعترف كثيرٌ من المؤرّخين الأجانب بهذه الحقيقة أذكر منهم العالم الكبير دوسو وكليرمون غافو والمؤرّخ إرنست ريتان الذي قال: إنه من الخطأ وتجاوزٌ عن الحقيقة تصوير العرب بشعوبٍ همجيةٍ وجاهلةٍ، بل على العكس كان لها من ذكائها وتفوّقها أن جعلت لنفسها مدنيّةً خاصّةً زاهرةً رغماً عن وجود الرّومان وتقدّمهم في شتّى ميادين الحضارة في ذلك الزّمن والأدلّة صريحةٌ على بقايا تلك الحضارة من الشام إلى