وأحسن ما وصل إلينا من الأدب الذي بصوّر هذه الحضارة هو شعر حسّان بن ثابت إذ ذكر شيئاً عن تلك الحياة الزاخرة بالمجد والعلم والفن. وقد عثر الباحثون في بابل على نقوشٍ بالخطّ المسماري وقفوا منها على تاريخ العمالقة واستدلّوا بها قيام دولة حمورابي العربية وهو اسم أكبر ملوكها ومؤسّس أقدم شريعةٍ في العالم كما تحقّق ما كان لدولة الأنباط العربية من مجدٍ وغنى ورواجٍ في التجارة وهندسة معمارية لا تزال بقاياها الرائعة مائلة حتّى الآن. وربّما كان الغموض المحيط ببعض نواحي تاريخنا إغفالاً مقصوداً لأن التاريخ لم ينفرد بهذا الغموض، بل هو ككلّ تاريخٍ آخر قديمٍ في حاجةٍ إلى البحث والكشف عن حقائقه في مواطنه التي دلّ أوائل التنقيب فيها على ثروةٍ علميّةٍ تعاظم كلّ تاريخٍ في الدنيا، ومن المؤكّد أن الجهود التي ستبذل في هذا السبيل ستكشف عن ثنايا حضارةٍ عربيّةٍ زاهرةٍ وتدحض كلّ حديثٍ مدسوسٍ أو تعمّد في إقلال شأن العرب، ولعلّ حوران وهي إحدى ولايات العرب القديمة التي سكنوها من أقدم عصور تاريخهم ستكون من النّواحي التي لها نصيبٌ وافرٌ من هذه الجهود، فقد أينعت بها الثّقافة العربية وتغنّى بجمالها كبار شعرائها، فمدح ملوكها النابغة الذّبياني وحسان بن ثابت، كما أنها كانت أوّل محطّ مدني نلتقي به القوافل القادمة من الجزيرة واليمن والعراق وجلّهم من التجار والأدباء وراغبي التمتّع بمباهج المدنيّة في بلاط الملوك وقصور هذه الديار وحدائقها الغنّاء فكانت محيطاً جديداً وجوّاً فخماً يعيش فيه أرباب القوافل مدةً نم الزمن يعودون بعدها حاملين بضاعة الشام النفيسة وأخباراً وأقاصيص عن بلادٍ مدهشةٍ. ليتحدّثوا بها في مجالسهم العامرة بقلب الجزيرة المباركة فيهتزّ المستمع البدوي لذكرها طرباً ويهفو قلبه شوقاً لرؤياها، هذه هي حوران وحاضرتها بصرى أمّ المدن وعروس البلاد العربية عاصمة الأنباط ومساكن الغساسنة أهراء العالم القائمة بها صروح المجد التاريخية التي تنطق عن فنٍّ خالدٍ ومجدٍ تالدٍ وحضارةٍ كبرى. ولعلّ من أعجب مل مسته من طلاّب المدارس أثناء زيارتهم لآثار بصرى أن يرددوا اسم الغساسنة في حوارهم عن الذكريات التاريخية بحوران ويسألوا عن أماكنهم وبقايا حضارتهم دون أن أسمع من أيّ فردٍ منهم ذكراً للأنباط العرب أو استفهاماً عن آثارهم الكثيرة هذا مع الفرق الشّاسع بين الدولتين في شتّى نواحي الحياة وكلّ ذلك