أجل تريد هذه النفوس أن تتكيّف في الماضي والماضي فقط ناسيةً أنّ العقل قبل النقل، وتريد الفناء الكامل والدّهر يصيح: رويدك أيّها - الحجر - رويدك أيّها الإنسان فما حاضرك إلا سلسلةٌ بين الماضي والمستقبل، وما حاضرك إلا مولودٌ من ماضيك فاخضع له، وانسَب معه، ولا تتعلّق بكلّ الماضي، فقد خلقت لحاضرك، ووجدت من أجل ساعتك، فدعك وأيام غيرك، بل هيّا وانهش عيشك. . .
ولكن مهلاً أيّها الإنسان، مهلاً لك ولهذا السؤال، الذي يتوارد فوراً لخاطرك، ويخالج توّاً نفسك. . .
إنّك سوف تتساءل: وكيف يتسنّى لهذا المخلوق أن ينساب مع محيطه دائماً وأبداً مهما كان هذا المحيط! لنفرض - مثلاً - أنّ حياته في بيئته تلك هي سلبية إلى حدٍّ كبيرٍ، أعني في درجةٍ دنيا من سلّم الرّقي والحضارة، فهل يحقُّ لهذا الفرد أن يقف مكتوف اليدين إزاء واقعه هذا - لضرورة الانسياب معه -؟! وهل لا يجب أن يشذّ عن تيّار محيطه خطوةً ثم خطواتٍ إلى الأمام علّه يضيء طريق الحياة وينير سبيل التّقدّم فيهدي مواطنيه في ظلامهم الدّامس وينتشلهن بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة نحو الصالح العام؟!
أجل. . . وكيف لا والإنسانيّة سائرةٌ بخطىً سريعةٍ نحو العلاء! والفرد فيها يعرج متوثّباً نحو السّماء؟ فهو إن لم يفعل نُبِذ لأنّه لم يساير وينسب مع الحياة. . . الحياة الوثّابة الحياة التي تريد البقاء.
إننا لا نطلب - ضرورة الانسياب هذا - إلا للقضاء على هوّةٍ سحيقةٍ وفجوةٍ كبرى تزيد وتتهيّأ للظهور بين أبناء القطر الواحد. . . تصوّر هذا الفرد بعقليةٍ وعاداتٍ وتقاليدٍ تخالف كلّ المخالفة ما يتمتّع به صاحبه بالمقابل ثم تصوّر هذا البون الشاسع في حياتهما العمليّة أو الفكريّة العقلية، فهلاّ تلاحظ معي أنّ الشقّة بعيدةٌ بين الطرفين؟ وهلاّ في أو تأخذ وسطهما المتناسب ليتسنّى لهما العيش؟!
إننا ندعو إلى ضرورة الانسياب مهما كلّف الأمر على أن يكون انسياباً نحو الجوزاء. نابذين عقولاً متحجّرةً، ونفوساً ساكنةً تلك التي تريد أن تجعل من حاضرها ساحةً كبرى تتنوع فيها كلّ عناصر الماضي من غثٍّ وثمينٍ، ضاربةً بكلّ تقدّمٍ ونشاطٍ إنسانيٍّ، عرض الحائط، لأنه في نظرها - جديدٌ - جديدٌ فحسب. . .