للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه في غده" (١) اهـ. قال الكوثري بعد هذا النقل: "انظر كيف كان ينهى أصحابه عن تدوين المسائل إذا تعجّل أحدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يجب، فإذا أحطتَ خبرًا بما سبق، علمتَ وجاهة ما يقوله الموفق المكي أنه وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم. ."، إلخ كما سبق.

وهكذا، يمكن لنا أن نستوحي من هذه النقول أن الاجتهاد في المذهب الحنفي لم يكن اجتهادًا فرديًّا لإمام المذهب، إنما كان اجتهادًا جماعيًّا، كثرت فيه الأقوال، ودونت فيه الآراء عن الأصحاب إلى جانب آراء إمامهم، وهو ما يؤكد فكرة "الشورى" في تدوين المذهب. يقول الشيخ وهبي سليمان غاوجي (٢): "وإنها - لَعَمر الله - دراسة منهجية حرّة شريفة، يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة، ليُدْلي كلٌّ بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجّة، ثم يعقّب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوب صواب أهل الصواب ويؤيده بما عنده من أدلة. . فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة كان من العسير نقدها فضلًا عن نقضها، والله الهادي الموفق إلى الخير".

ولقد كان أحسن أصحاب أبي حنيفة تدوينًا لأقواله واجتهاداته من بعده: محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى، حيث صنف ما عرف بكتب ظاهر الرواية، وقد ذكر فيها رأيه، ورأي أبي يوسف، بعد قول أبي حنيفة (٣)، ثم توجّه المشايخ إلى تلك التصانيف تلخيصًا وتقريبًا، وتخريجًا وتأسيسًا. .

- طبقات الفقهاء في المذهب الحنفي:

لا بد للمفتي المقلِّد أن يعلم حال من يفتي بقوله، حتى يكون على بصيرة وافية تمكنه من التمييز بين القائلَين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين، "ولحاجته إلى معرفة من اعتبر قوله في انعقاد الإجماع في محل الاتفاق والاجتماع، ويعتد به في الخلاف في محل الافتراق والاختلاف، وافتقاره إليه في الترجيح والإعمال عند تعارض الأقوال بقول أعلَمِهم وأورعهم في


(١) المرجع السابق.
(٢) في كتابه: "أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء" ص ٦٤، (بتصرف).
(٣) وفي فتاوى العلامة قاسم بن قطلوبغا: أن ما لم يحكِ محمد فيه خلافًا فهو قولهم جميعًا، كما ذكر المحقق الكمال بن الهمام. (انظر "رسم المفتي" لابن عابدين ١/ ١٩).

<<  <   >  >>