للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تناقلها العلماء من بعد، والتي غالبًا ما أضاف فيها المتأخر على من تقدمه، حتى بلغت تلك الزيادات ذروتَها مع الفقيه ابن عابدين. . إنما كان يُنص على لزوم عمل المفتين بها - وقد التزموا بها فعلًا - لاعتبارات عدة، منها: الحفاظ على أقوال الأئمة المجتهدين من تقوّل أدعياء الاجتهاد، والحرص على هيبة المذهب ومكانته في نفوس أتباعه، كما ظهر لي، والله تعالى أعلم.

ولكن الذي عليه العلماء أن الاجتهاد يبقى واجبًا مؤكدًا على الأمة في كل زمان، بل قد أدّى اجتهاد بعضهم إلى النظر في هذه القواعد المذكورة نفسها. . يقول إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري رحمه الله تعالى: "إن الروايات إذا اختلفت عن إمامنا [أبي حنيفة] في مسألة، فعامّة مشايخنا يسلكون فيها مسلك الترجيح، فيأخذون بظاهر الرواية، ويتركون نادرها، وليس بسديدٍ عندي، سيّما إذا كانت الرواية النادرة تتأيّد بالحديث، فإني أحمله على تلك الرواية، ولا أعبأ بكونها نادرة. ." (١).

واليوم؛ تتجه أنظار أكثر الباحثين إلى ما يسمى بالاجتهاد الجماعي، ليمارسه فقهاء العصر الثقات، بطريق الشورى فيما بينهم وبين غيرهم من محدثين ولغويين وخبراء. . لأن حركة الحياة متجدّدة، والأعراف متغيرة، ولا بد لكل واقعة من فتوى .. ومن هنا نبتت فكرة إنشاء مجمع فقهي يضم نخبة من فقهاء العصر في مختلف البلاد الإسلامية، وكان من ثمرة هذه الدعوة انعقاد مؤتمرات دورية عديدة للفقه في غير ما مكان من العالم الإسلامي (٢).

وإلى أن تتحقق الصفة الإلزامية لقرارات ونتائج هذه المؤتمرات، ربما كان الأصلح - فيما يتعلق بغير المسائل التي استجدت - أن نتمسك بتلك القواعد التي بها عُرف القول الراجح في المذهب من بين مختلف الأقوال والروايات، والتي أنارت لأهل العلم سبيلهم، وكانت ضمانة لوحدة الفتوى فيما بينهم، والحمد لله ربّ العالمين.


(١) انظر: "فيض الباري" كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب خرج كما هو، ١/ ٣٥٧، (نقلته من كتاب: "تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر، وآثارهم الفقهية" للشيخ عبد الفتاح أبي غدّة، هامش ص ٣٩).
(٢) انظر "المدخل الفقهي العام" للأستاذ مصطفى الزرقا، ١/ ٢٤٩، ٢٥٠.

<<  <   >  >>