لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
حيث استعمل في وصفه بالكرم «الجفنات» وقيدها بوقت الضحى، وهو وقت تناول الطعام، والمبالغة تقتضي جمع الكثرة ووجودها في كل وقت، وحيث قال في وصف شجاعته:«الأسياف»، والمبالغة السيوف، ووصفها ب «القطر»، والمبالغة الوصف بالسيلان، ففيه: أن أحسن الشعر أكذبه بالاشتمال على كذبات مقبولة لا تمجّها ذائقة الأسماع، ولا يتأذّى منها بالاستماع، وخير الكلام ما بولغ فيه بالمبالغة المقبولة، وأما استدراك النابغة على حسان فليس بحسان، لأنه بعد أن الحسان ممن يلتزم الصدق في الشعر، كما استدل عليه بشعره السابق أن استعارة القلة للكثرة غير غزيرة وفي وصف «الجفنات» ب «الغر» الذي هو جمع كثرة نوع إيضاح لها، وفي تقييد لمعان الجفنات في هذا الوقت مع كثرة الآكلين فضلا عن الأوقات الأخر، وصف السيف ب «القطر» هو الشائع دون وصفه بالسيلان، على أن كمال الشجاعة أن يقطع السيف سريعا، بحيث يتخلص من العضو قبل أن يصل إليه الدم، ويختلط به كثيرا، وبالجملة فالمصنف اختار مذهب القصد كما قال بعضهم: أحسن الشعر أقصده؛ لأن على الشاعر أن يبالغ فيما يصير به القول شعرا فقط، فما استوفى أقسام البراعة والتجويد أو جلّها، من غير غلو في القول، ولا إحالة في المعنى، ولم يخرج الموصوف إلى أن لا يوصف بشيء من أوصافه، لظهور الشرف في أبياته، وشمول التزيين لأقواله كان بالإيثار والانتخاب أولى.
وخالف في هذا الإيثار أكثر العلماء القائلين للشعر العالمين به، فإنهم اختاروا الغلو؛ لأن القائل البليغ إذا أدخل في بيانه المبالغة وأسقط عن نفسه مطابقة الوصف والموصوف، ورعاية المماثلة؛ اشتد فيما يأتيه إلى أعلى الرتبة، وظهر قوته في الصياغة، وتمهّره في الصناعة، فتصرف في الوصف كيف يشاء؛ لأن العمل عنده على المبالغة والتمثيل، لا المصادقة والتحقيق، كذا ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وجعل دليل من قال: أحسن الشعر أصدقه، أن تجويد قائله فيه مع كونه في آثار الصدق يدل على الاقتدار والحذق، وأشار إلى تفسير المبالغة