للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (١) فيحتمل الوجهين، وأما قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً (٢) فيحتملهما، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا لأن معنى السّلام هو الدعاء بالسلامة، وأهل الجنة أغنياء عن ذلك، فكان ظاهره من اللغو، وفضول الكلام، لولا فائدة الإكرام، هذا كلامه، ويتجه عليه أنه إتيان بصفة مدح مستثناة من صفة ذم منفية، لا بصفة مدح مع حرف الاستثناء، بعد صفة مدح أخرى. فكيف يحتمل كونه من الضرب الثاني؟

وأجيب بأن معنى كونه من الثاني، أنه من قبيله في عدم إفادته التأكيد إلا من وجه واحد، وبهذا اختل تعريف الضرب الأول، وتفصيله على الإطلاق أو الحصر في الضربين، وانهدم ما ذكر بالدفعة فتذكر.

والحق أن يقال: يجوز أن يعتبر: لا يسمعون، صفة مدح، ويعتبر الوصف بعدم سماع اللغو، لا نفي سماع اللغو، حتى يكون القصد إلى نفي صفة ذم، وحينئذ يكون إِلَّا سَلاماً بتقدير لكن يسلمون سلاما صفة مدح أخرى، بعد أداة استثناء لا يمكن تقدير إدخالها في الأول، ويحتمل أن يعتبر نفيا لصفة ذم هو سماع اللغو، ويكون إلا سلاما مستثنى من لغو، فيكون من الضرب الأول لا محالة، لما قدمناه لك، فلا ترض بانهدامه، وكن لاغتنامه، وإنه لا يجوز أن يكون الآية الأولى أيضا محتملة للثالث، وأجيب بأن السّلام لا يمكن إدخاله تحت التأثيم، ولو بحسب الظاهر، لأن التأثيم أن يقال لأحد أثمت، ولا يجوز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بمتعدد غير مستثنى منه، وأيضا يتجه على الاحتمال الثالث أنا لا نسلم أن أهل الجنة أغنياء عن الدعاء بالسلامة، لجواز أن يكون سلامتهم في الجنة، ويقررها لأنهم لا ينفكون عن السّلام، فتأمل، وتحتمل الآية وجها رابعا بأن يكون سلاما مصدرا حينيا أي لا يسمعون فيها لغوا وقتا إلا وقت تسليم، فيكون من الضرب الآخر.

(ومنه) أي من تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) كالضرب الأول بعينه في إفادة التأكيد، فإنهم لذلك حصروها في ضربين، فالحصر منقول،


(١) الواقعة: ٢٥، ٢٦.
(٢) مريم: ٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>