للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكم، وقالوا: لستم مرسلا، ولكنكم بشر، وفائدة تنزيلهم منزلة المنكر للبشرية المبالغة في المنافاة بين الرسالة والبشرية، قال السيد السند: فرق بين هذا المثال والمثال السابق، فإن المنشأ في التنزيل فيه هو حال المتكلم والمخاطب، وفي السابق حال المخاطب فقط.

هذا، ولا يخفى أنه وهم، لأن المنشأ في التنزيل مطلقا، مخالفة علم المتكلم لما عليه المخاطب، إلا أنه في السابق علمه مطابق للواقع، وهنا غير مطابق، ونأتيك ببحث شريف نظنه موهبة رءوف لطيف، وهو أن ما جعلوه تنزيلا يحتمل أن يكون على مقتضى الظاهر، ويكون الكلام من قبيل الكناية، فيكون إن أنتم إلا بشر بمعنى: إن أنتم إلا غير رسل لاستلزام البشرية نفي الرسالة، فذكر البشرية، وأريد انتفاء الرسالة، ففي الكلام قصر قلب من غير تنزيل، وإنما اختار المصنف في مقام التمثيل: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) الآية دون ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ (١)؛ لأنه كان في الأول إشكال يحتاج إلى الدفع، وهو أنه يلزم أن يكون قول الرسل: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٢) تسليما لذلك القصر، واعترافا بانتفاء رسالتهم، فأجاب عنه بقوله (وقولهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ من مجاراة الخصم) أي: الجرى معه وعدم المخالفة في السلوك، ومن قبيل تسليم المقدمة وإظهار الإنصاف (ليعثر) لينزل الخصم من العثار وهو الزلة، لا من العثور وهو الوقوف (حيث يراد تبكيته) أي: إسكاته وإلزامه، لا لتسليم انتفاء الرسالة، وفيه أن تسليم القصر يستلزم تسليم البشرية، وانتفاء الرسالة أيضا، وفيه العثار في يد الخصم؛ لإعثاره، ليجاب بأن المراد منه: نحن بشر مثلكم، والنفي والاستثناء لغو لم يقصد به معنى، وإنما ذكر لمجرد موافقة الخصم في العبارة، ولا يخفى أن الجواب حينئذ أن المراد بالنفي والاستثناء مجرد إثبات البشرية، ولا مدخل فيه؛ لكونه من مجاراة الخصم على أن ذلك بعيد عن النظم، بل لا يليق ببلاغته؛ لأن الموافقة للخصم في عبارة يكون صريحا في تسليم دعواه بمعزل عن البلاغة، فالوجه أن يقال: إن القائلين اعتقدوا أن الرسول يكون ملكا، لا بشرا، فنزلوا الرسل في دعوى


(١) يس: ١٥.
(٢) إبراهيم: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>