للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١) إن الثانية بدل البعض من الأولى لدخولها فيها.

ثم قال: وظاهر المفتاح يشعر بوقوع حتى في عطف الجمل؛ حيث قال في بحث العطف: ولا بد في «حتى» من التدريج لما ينبئ عنه قوله:

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتّى صار إبليس من جندي (٢)

إذ الظاهر أنه مثال لحتى العاطفة، وحينئذ تجعل الشرط المذكور مخصوصا بحتى العاطفة للمفردات، هذا وفيه أنك عرفت أنه يجري الشرط في الجمل وتفصيله في البيت أنه اندرج في ارتقى في الحال صار كذا وصار كذا فيصح حتى صار إبليس من جندي، وإنما قال الظاهر؛ لأنه يجوز أن يكون نظير الإفادة تدريج حتى العاطفة، وله في المفتاح غير نظير ويحمل قوله: ولا بد في «حتى» على حتى مطلقا مساغ، ومعنى البيت على ما هو المشهور أنه صار بمتابعة إبليس مترقيا في الشرارة إلى أن تبعه إبليس متابعة الجندي للسلطان، ففيه تحذير عن ارتكاب الصغائر فإنه يفضي إلى الجزاءة على أكبر الكبائر، ويحتمل أن يكون المراد أني صرت بالتوبة إلى أن انقاد بي إبليس ولا يزاحمني في الطاعة، ففيه ترغيب في العبادة والجد فيه وإزالة الخوف من تسويل النفس وغلبة الشيطان فإنه يندفع بالثبات على الخير، وإنما شاع العطف بما سوى الواو وحتى ولا؛ لأن لها معنى محصلا وفائدة يعتد بها، بخلاف الواو فإنه لا يفيد إلا اشتراك الجملتين في التحقق، ولا توجه للنفس إلا الاشتراك في التحقق بعد معرفة تحققهما؛ لأنه ليس معنى يعجب النفس، وإنما يعجبها ويجعلها طالبا له بشرائط لا يتيسر معرفتها إلا الأوحدي بعد أوحدي؛ فلذا ترى المهرة يبوحون بحصر البلاغة فيه مبالغة في كونه مدارا لها لا تقول: لو لم تعطف الجملتان لأوهم أن الجملة الثانية رجوع عن الأول؛ لأنا نقول: لا كلام في صحة العطف في مقام التوهم، وهو عطف لدفع


(١) الشعراء: ١٣٢.
(٢) البيت لأبي نواس في المفتاح: ١٠٢، والإيضاح: ٥٨.
وحتى فيه ليست عاطفة، وإنما يقصد التمثيل به لإفادتها التدريج، وإنما لم تكن عاطفة لأن المشهور أنها لا تأتي في عطف الجمل، لأن الجملة قبلها لا يستقبل بها الكلام حتى يصح العطف عليها عند من يقول بصحة العطف بها في الجمل.

<<  <  ج: ص:  >  >>