للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[إحكام الأحكام]

حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «بِأَنَّهُ يَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ» وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَوَغِّلِينَ، فَقَالَتْ: لَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَنْسَى عَمْدًا. وَيَتَعَمَّدُ صُورَةَ النِّسْيَانِ لِيَسُنَّ. وَهَذَا قَطْعًا بَاطِلٌ، لِإِخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَنْسَى؛ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْعَمْدِيَّةَ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّ صُورَةَ الْفِعْلِ النِّسْيَانِيِّ كَصُورَةِ الْفِعْلِ الْعَمْدِيِّ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزَانِ لِلْغَيْرِ بِالْإِخْبَارِ وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا السَّهْوَ قَالُوا: لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ الْفِعْلِيُّ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مِنْ شَرْطِ التَّنْبِيهِ الِاتِّصَالُ بِالْحَادِثَةِ، أَوْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ؟ بَلْ يَجُوزُ التَّرَاخِي إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّةُ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ الْعُمْرُ. وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَدْ وَقَعَ الْبَيَانُ فِيهَا عَلَى الِاتِّصَالِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَفْعَالَ إلَى مَا هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَلَاغِ، وَإِلَى مَا لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَلَاغِ، وَلَا بَيَانَ لِلْأَحْكَامِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عَادَاتِهِ وَأَذْكَارِ قَلْبِهِ. وَأَبَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَنٍ. وَقَالَ: إنَّ أَقْوَالَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالَهُ وَإِقْرَارَهُ: كُلَّهُ بَلَاغٌ، وَاسْتَنْتَجَ بِذَلِكَ الْعِصْمَةَ فِي الْكُلِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا بَلَاغٌ. فَهَذِهِ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْعِصْمَةُ - أَعْنِي: الْقَوْلَ، وَالْفِعْلَ وَالتَّقْرِيرَ - وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي ذَلِكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ عَمْدٍ وَسَهْوٍ. وَأَخْذِ الْبَلَاغِ فِي الْأَفْعَالِ: مِنْ حَيْثُ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ السَّهْوَ وَالْعَمْدَ سَوَاءٌ فِي الْأَفْعَالِ فَهَذَا الْحَدِيثُ يُرَدُّ عَلَيْهِ.

الْمَوْضِعُ الثَّانِي: الْأَقْوَالُ. وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ. وَالسَّهْوُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ. وَنُقِلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، كَمَا يَمْتَنِعُ التَّعَمُّدُ قَطْعًا وَإِجْمَاعًا. وَأَمَّا طُرُقُ السَّهْوِ فِي الْأَقْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِيمَا لَيْسَ سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ، مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَسْتَنِدُ الْأَحْكَامُ إلَيْهَا، لَا أَخْبَارُ الْمَعَادِ، وَلَا مَا يُضَافُ إلَى وَحْيٍ. فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُمْ جَوَّزُوا السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَيْهِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ الَّذِي يُتَطَرَّقُ بِهِ إلَى الْقَدَحِ فِي الشَّرِيعَةِ. قَالَ: وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي خَبَرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ، كَمَا لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِمْ فِيهَا الْعَمْدَ. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ خُلْفٌ مِنْ خَبَرٍ، لَا عَنْ قَصْدٍ وَلَا سَهْوٍ، وَلَا فِي صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ، وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٍ. وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» وَفِي

<<  <  ج: ص:  >  >>