. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[إحكام الأحكام]
رِوَايَةٍ أُخْرَى «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» وَاعْتُذِرَ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَكُنْ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ مَعًا. وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِ قَلْبِهِ وَظَنِّهِ. وَكَأَنَّهُ مُقَدِّرٌ النُّطْقَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ فِي ظَنِّي، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خِلَافَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ فِي ظَنِّهِ. فَإِذَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُقَدِّرًا مُرَادًا. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَخْتَصُّ أَوَّلُهُمَا بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» . وَأَمَّا مَنْ رَوَى «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» فَلَا يَصِحُّ فِيهِ هَذَا التَّأْوِيلُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ الْخَبَرِيِّ هُوَ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ - فَهُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَيَصِيرُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ أَنْسَ» يُحْمَلُ عَلَى السَّلَامِ، أَيْ: إنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا، لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى ظَنِّ التَّمَامِ. وَلَمْ يَقَعْ سَهْوًا فِي نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ السَّهْوُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَهَذَا بَعِيدٌ. وَرَابِعُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْهُو وَلَا يَنْسَى. وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ النِّسْيَانَ؛ لِأَنَّهُ غَفْلَةٌ. وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا. وَكَانَ شُغْلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ وَمَا فِي الصَّلَاةِ: شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْلِيصٌ لِلْعِبَادَةِ عَنْ حَقِيقَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، مَعَ بُعْدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَكَأَنَّهُ مُتَلَوِّحٌ فِي اللَّفْظِ: أَنَّ النِّسْيَانَ عَدَمُ الذِّكْرِ لِأَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ. وَالسَّهْوُ عَدَمُ الذِّكْرِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا. وَيَكُونُ النِّسْيَانُ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَفَقُّدِ أُمُورِهَا، حَتَّى يَحْصُلَ عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالسَّهْوُ: عَدَمُ الذِّكْرِ، لَا لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا - بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ - تَفْرِيقٌ كُلِّيٌّ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَخَامِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ وَجْهًا، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسْبَةَ النِّسْيَانِ الْمُضَافِ إلَيْهِ. وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ «بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ كَذَا وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ» وَقَدْ رُوِيَ «إنِّي لَا أَنْسَى»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute