(وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ ﷺ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ. قَالَ (إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا
وَقَالُوا: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ وَيُرِيقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَيْسَرُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ وَمَشَقَّةِ الطَّرِيقِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ ﵊) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ ﵊ «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، إلَّا الْحُيَّضَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» لَا يُقَالُ: أَمْرُ نَدْبٍ بِقَرِينَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَدَاعُ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَصْلُحُ صَارِفًا عَنْ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ أَنْ يُطْلَبَ حَتْمًا لِمَا فِي عَدَمِهِ مِنْ شَائِبَةِ عَدَمِ التَّأَسُّفِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَشِبْهِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْوَدَاعِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي النُّصُوصِ، بَلْ أَنْ يُجْعَلَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالطَّوَافِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْقَرِينَةِ إذَا لَمْ يَفْقَهَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ مُقْتَضَاهَا، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّرْخِيصِ يُفِيدُ أَنَّهُ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ التَّرْخِيصِ فِي الشَّيْءِ هُوَ تَحْتِيمُ طَلَبِهِ إذْ التَّرْخِيصُ فِيهِ هُوَ إطْلَاقُ تَرْكِهِ فَعَدَمُهُ عَدَمُ إطْلَاقِ تَرْكِهِ، وَمِمَّا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ الْوُجُوبِ مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْصَرِفَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» فَهَذَا النَّهْيُ وَقَعَ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ وَكَذَا مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَوَافُ صَدَرٍ، وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتَمِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِر طَوَافُ الصَّدَرِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ.
وَفِي إثْبَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي الْبَدَائِعِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ﵀: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدَرِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَفَصَلَ فِيمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا بَيْنَ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا طَوَافَ عَلَيْهِ لِلصَّدَرِ، وَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute