النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ «إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ» يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ.
قَالَ (ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ
غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ اهـ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَهُ قَصْدًا لِيَرَى لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ فِيهِ نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَايَسَةِ نُزُولِهِ بِهِ الْآنَ إلَى حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: أَعْنِي حَالَ انْحِصَارِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي شَمِلَتْهُ ﵊ مِنْ النَّصْرِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى إقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي دَعَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ عِبَادَهُ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَادِهِمْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَزَّرُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَدِيرٌ بِتَفَكُّرِهَا وَالشُّكْرِ التَّامِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا فَكَانَ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا.
وَعَنْ هَذَا حَصَّبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵁ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄ كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْأَبْطَحِ» وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحَصُّبَ سُنَّةً وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ اهـ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كَالرَّمَلِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُرَادَ بِهَا إرَاءَةُ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. بَلْ الْمُرَادُ إرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ) وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ آخِرَ طَوَافِهِ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ: إذَا اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ بِمَكَّة يُعِيدُهُ لِأَنَّهُ لِلصَّدَرِ، وَإِنَّمَا يَعْتَدُّ بِهِ إذَا فَعَلَهُ حِينَ يَصْدُرُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ، فَحِينَ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهُ جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ إذَا الْحَالُ أَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الرُّجُوعِ.
نَعَمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁: إذَا طَافَ لِلصَّدَرِ ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْعِشَاءِ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ كَيْ لَا يَكُونَ بَيْنَ طَوَافِهِ وَنَفْرِهِ حَائِلٌ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْمِ عَقِيبَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ إذْ لَا يُسْتَغْرَبُ فِي الْعُرْفِ تَأْخِيرُ السَّفَرِ عَنْ الْوَدَاعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ أَنْ يُوقِعَ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ، وَأَمَّا وَقْتُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَأَوَّلُهُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ، حَتَّى لَوْ طَافَ لِذَلِكَ ثُمَّ أَطَالَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَلَوْ سَنَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهَا وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا جَازَ طَوَافُهُ وَلَا آخِرَ لَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ، بَلْ لَوْ أَقَامَ عَامًا لَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَطُوفَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً.
وَلَوْ نَفَرَ وَلَمْ يَطُفْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَطُوفَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمَوَاقِيتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ جَاوَزَهَا لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ عَيْنًا، بَلْ إمَّا أَنْ يَمْضِيَ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ لَا يُجَاوَزُ بِلَا إحْرَامٍ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِذَا رَجَعَ ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِطَوَافِ الصَّدَرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ