مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ﵁ كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ (وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ
لَمَا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا لِأَجْلِ السِّقَايَةِ اهـ. فَعُلِمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَبِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ هَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ: وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا احْتَاجَ إلَى إذْنٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ كَانَ مُجَانِبًا جِدًّا خُصُوصًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا الِانْفِرَادُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ الرَّسُولِ ﵊، فَاسْتَأْذَنَ لِإِسْقَاطِ الْإِسَاءَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ مُوَافَقَتِهِ ﵊ مَعَ مُرَافَقَتِهِ فَإِنَّهُ أَفْظَعُ مِنْهُ حَالَ عَدَمِ الْمُرَافَقَةِ، بَلْ هُوَ جَفَاءٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِسُوءِ الْأَدَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ﵊ كَانَ يَبِيتُ بِمِنًى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ «أَنَّهُ ﵊ مَكَثَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» وَنَفْسُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ﵁ يُفِيدُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ ﵁ كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ.
نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنًى. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنَامَ أَحَدٌ أَيَّامَ مِنًى بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ فِي تَقْدِيمِ الثَّقَلِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: عُمَرُ ﵁: مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ مِنْ مِنًى لَيْلَةَ يَنْفِرُ فَلَا حَجَّ لَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ قَبْلَ النَّفْرِ فَلَا حَجَّ لَهُ اهـ: يَعْنِيَ الْكَمَالَ
(قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَبْطَحُ) قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ إلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَهَذَا لَا تَحْرِيرَ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِنَاءُ مَكَّةَ حَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُتَّصِلِينَ بِالْمَقَابِرِ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لِذَلِكَ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مِنًى مُرْتَفِعًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَيْسَتْ الْمَقْبَرَةُ مِنْ الْمُحَصَّبِ، وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ (قَوْلُهُ هُوَ الْأَصَحُّ) يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: لَيْسَ الْمُحَصَّبُ بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: " لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنْ جِئْت وَضَرَبْت قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ ". وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهُ قَصَدَهُ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِمَعْنَى التَّسْهِيلِ. رَوَى السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ: «إنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُحَصَّبَ» لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ.
وَجْهُ الْمُخْتَارِ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ: يَعْنِي الْمُحَصَّبَ» الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute