للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَدِّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَمَكَّنُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غَشَيَانِهَا

أَوْ مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ مُوجِبٌ، وَلَوْ قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عِنْدَهُمَا مُوجِبٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا.

وَقَوْلُهُ هَدْيٌ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمَشْيِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِ الْهَدْيِ مُوجِبٌ فَزِيَادَةُ ذِكْرِ الْحَرَمِ لَا تَرْفَعُ الْوُجُوبَ بَعْدَ الثُّبُوتِ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ غَيْرُ مُوجِبٍ بَلْ مَعَ مَا يَمْشِي إلَيْهِ. أُجِيبُ بِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ إنَّمَا يُوجِبُ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِ مَكَّةَ مُضْمَرًا بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ تَعَذَّرَ إضْمَارُ مَكَّةَ فِي كَلَامِهِ، إذْ قَدْ صَرَّحَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِهِ.

وَقَوْلُهُ فَثَوْبِي هَذَا سِتْرٌ لِلْبَيْتِ أَوْ أَضْرَبَ بِهِ حَطِيمَ الْبَيْتِ مُلْزِمٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ هَدْيُهُ.

وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَالِي أَوْ جَمِيعُهُ هَدْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالَهُ كُلَّهُ وَيُمْسِكَ مِنْهُ قَدْرَ قُوتِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ. وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا إذَا قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَقَالَ فِي الْقِيَاسِ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ مَالٍ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ. فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ فِي كُلِّ مَالٍ كَالْتِزَامِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ مَالٍ.

وَالْأَصَحُّ الْفَرْقُ بِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، فَكَذَا مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا أَوْجَبَ بِلَفْظِ الْهَدْيِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَفْظِ الْهَدْيِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ.

وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَمْ يَقُلْ صَدَقَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِمَا مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ.

وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ لَزِمَهُ مَكَانَ كُلِّ وَلَدٍ شَاةٌ، وَكَذَا إذَا نَذَرَ ذَبْحَ عَبْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الشَّاةُ فِي الْوَلَدِ لَا الْعَبْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَلْزَمُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

[الْمَقْصِدُ الثَّانِي فِي الْمُجَاوَرَةِ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَعَدَمِهَا. فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخْتَارَ اسْتِحْبَابُهَا إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْذُورِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَى كَرَاهَتِهَا، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ هِجْرَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: مَا كَانَ النَّاسُ يَرْحَلُونَ إلَيْهَا إلَّا عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَالرُّجُوعِ وَهُوَ أَعْجَبُ، وَهَذَا أَحْوَطُ لِمَا فِي خِلَافِهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ عَلَى الْخَطَرِ إذْ طَبْعُ الْإِنْسَانِ التَّبَرُّمُ وَالْمَلَلُ مِنْ تَوَارُدِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ فِي الْمَعِيشَةِ وَزِيَادَةِ الِانْبِسَاطِ الْمُخِلِّ بِمَا يَجِبُ مِنْ الِاحْتِرَامِ لِمَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ عَلَيْهِ وَمُدَاوَمَةُ نَظَرِهِ إلَيْهِ.

وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ مَحَلُّ الْخَطَإِ كَمَا قَالَ «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ» وَالْمَعَاصِي تَضَاعُفٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهَا فِي حَرَمِ اللَّهِ أَفْحَشُ وَأَغْلَظُ فَتَنْهَضُ سَبَبًا لِغِلَظِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْعِقَابُ.

وَيُمْكِنُ كَوْنُ هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْمَرْوِيِّ مِنْ التَّضَاعُفِ كَيْ لَا يُعَارَضَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا﴾ أَعْنِي أَنَّ السَّيِّئَةَ تَكُونُ فِيهِ سَبَبًا لِمِقْدَارٍ مِنْ الْعِقَابِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مِقْدَارِ عِقَابِ سَيِّئَاتٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا سَجِيَّةُ الشَّرِّ فَالسَّبِيلُ النُّزُوحُ عَنْ سَاحَتِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ فِي دَعْوَاهَا الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَغْرُورٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>