للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً، لِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْتَفْرِشٌ فَلَا تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ

مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْفَسْخِ. فَإِنْ قُلْت: يُمْكِنُ كَوْنُ فَاعِلِ يُزَوَّجْنَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُزَوِّجَهُنَّ مُزَوِّجٌ هِيَ لِنَفْسِهَا أَوْ الْأَوْلِيَاءُ لَهَا.

فَالْجَوَابُ أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ فَإِذَا بَاشَرَتْهُ لَزِمَتْهَا الْمَعْصِيَةُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ فَسْخَهُ إلَّا الْمَعْنَى الصِّرْفَ وَهُوَ أَنَّهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِ ضَرَرًا فَلَهُ دَفْعُهُ، وَهَذَا لَيْسَ مَدْلُولَ النَّصِّ، وَلَوْ عَلَّلَ نَهْيَهَا التَّضَمُّنِيَّ لِلنَّصِّ بِإِدْخَالِهَا الضَّرَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فَسْخُهُ مَدْلُولَ النَّصِّ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا التَّضَمُّنِيَّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا وَبِالْأَوْلِيَاءِ، فَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ إنَّمَا يُعَلَّلُ بِتَرْكِ النَّظَرِ لَهَا، وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ. وَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعٍ أَنَّ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ لِقَوْلِهِ «لَا يُزَوِّجُهُنَّ أَحَدٌ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» نَبْوَةٌ لِلدَّلِيلِ عَنْ الْمُدَّعِي. فَالْحَقُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ فِي الْكِتَابِ.

فَإِنْ قُلْت: كَوْنُ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ: أَعْنِي مُعْتَبَرًا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ. قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّهُ لَمْ تُقْصَدْ الْخُصُوصِيَّةُ فَإِنْ قُلْت: فَمَا هُوَ؟ قُلْنَا: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْوُجُوبُ: أَعْنِي وُجُوبَ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ وَتَعْلِيلُهَا بِانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ يُؤَيِّدُهُ لَا يَنْفِيهِ.

ثُمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ أَوَّلَ كُفْءٍ خَاطِبٍ إلَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» وَلَوْلَا أَنَّ شَرْطَ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِظَنِّيٍّ لَقُلْنَا بِاشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ لِلصِّحَّةِ.

ثُمَّ هَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا وَبِهَا حَقًّا لَهُمْ عَلَى مَا تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنْ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إلَّا بِرِضَاهَا: فَهِيَ تَارِكَةٌ لِحَقِّهَا، كَمَا إذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِ حَقِّهِ حَيْثُ يَنْفُذُ. هَذَا كُلُّهُ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا يُشْكِلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ.

فَإِنْ قُلْت: خَطَبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ عَلَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَلَيْسَ قُرَشِيًّا، وَزُوِّجَتْ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ بِلَالٍ وَهُوَ حَبَشِيٌّ، وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَةَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ . فَالْجَوَابُ أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ تِلْكَ النِّسَاءِ صَغَائِرَ بَلْ الْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُنَّ كَبَائِرُ خُصُوصًا بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ ثَيِّبًا كَبِيرَةً حِينَ تَزَوَّجَهَا أُسَامَةُ، وَإِنَّمَا جَازَ لِإِسْقَاطِهِنَّ حَقَّ الْكَفَاءَةِ هُنَّ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ.

هَذَا وَفِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا رَوَى عَنْهُ «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى» قُلْنَا مَا رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ حَمْلَ مَا رَوَوْهُ عَلَى حَالِ الْآخِرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ انْتِظَامَ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ انْتِظَامُ مَصَالِحِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ؛ لِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>