. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْمَذْهَبَيْنِ إلَى تَحْرِيمِهَا وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِمَّنْ زَالَ عَقْلُهُ بِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيهِ بِمَعْنَى عَكْسِ الِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِقْبَاحِ مَعَ تَمْيِيزِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْعَجَبُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِنْ أَنَّ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُتَّجَهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ، أَمَّا ذَلِكَ الْخِطَابُ فَقَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾.
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ حَالَ سُكْرِهِ فَنَصٌّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ سُكْرِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا فِي حَالِ سُكْرِهِ، إذْ لَا يُقَالُ إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا، وَبِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُلْحِقَ بِالصَّاحِي فِيمَا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ حَتَّى حُدَّ وَقُتِلَ إذَا قَذَفَ وَقَتَلَ فَلَأَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِيمَا يَثْبُتُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ يُوجِبُهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ عَقِيبَهُ، وَعَدَمُ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ النَّصِّ مَا اعْتَبَرَ عَقْلَهُ بَاقِيًا إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ كَانَ بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُوجِبُ إكْفَارُهُ التَّشْدِيدَ فِيمَا يُوجِبُهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِكْفَارَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إنَّمَا يَكُونُ احْتِيَاطًا، وَلَا يُحْتَاطُ فِي الْإِكْفَارِ بَلْ يُحْتَاطُ فِي عَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَهَا الِاعْتِقَادُ وَهُوَ مُنْتَفٍ. لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَدَمُ إكْفَارِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ مِنْ الْكُفْرِ هَزْلًا وَالْوَاقِعُ إكْفَارُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إكْفَارُهُ بِالِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي السَّكْرَانِ؛ لِأَنَّ زَائِلَ الْعَقْلِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِشَيْءٍ، وَفِي جُمَلِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ عَقْلِهِ لِلزَّجْرِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ زَوَالُهُ فَتُرَجَّحُ جِهَةُ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَعَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا فَلَا يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّدَاوِي بَلْ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَةِ قَصْدًا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ يَقَعُ.
فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ شَرِبَ الْبَنْجَ فَارْتَفَعَ إلَى رَأْسِهِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَالَا: إنْ كَانَ حِينَ شَرِبَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا هُوَ تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَطْلُقْ مَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرُورَةَ مُبِيحَةٌ، فَكَانَ مَحْمَلُ هَذَا مَا قُلْنَا، وَعَنْ ذَلِكَ قُلْنَا: إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَصُدِعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ فَطَلَّقَ لَا يَقَعُ، وَالْحُكْمُ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَالشُّرْبِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْعِلَّةِ: أَعْنِي الصُّدَاعَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ أَثَرَهَا لَا يَصِلُ إلَى الْمَعْلُولِ الْأَخِيرِ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا فَالشُّرْبُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلصُّدَاعِ بَلْ يَثْبُتُ الصُّدَاعُ اتِّفَاقًا عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الطَّبِيعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَصَارَ الشُّرْبُ الَّذِي وُجِدَ عَنْهُ الصُّدَاعُ الَّذِي عَنْهُ زَوَالُ الْعَقْلِ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلْمَعْصِيَةِ لَمْ يُوجِبْ التَّشْدِيدَ بَلْ يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فَلَمْ يُضَفْ زَوَالُ الْعَقْلِ إلَيْهِ لِيُثْبَتَ التَّشْدِيدُ بِخِلَافِ الشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ صُدَاعٌ مُزِيلٌ لِلْعَقْلِ بَلْ زَالَ بِهِ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّشْدِيدُ لِإِضَافَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ لِإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ ثُمَّ سَكِرَ لَا يَقَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ عِنْدَ كَمَالِ التَّلَذُّذِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مُكْرَهًا، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُقُوعِ عِنْدَ زَوَالِ الْعَقْلِ لَيْسَ إلَّا التَّسَبُّبُ فِي زَوَالِهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ السُّكْرَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْأَشْرِبَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ اُضْطُرَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ، وَمَنْ سَكِرَ مِنْهَا مُخْتَارًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute