عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً: (فَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَتَقَعُ الْأُولَى فِي الْحَالِ فَتُصَادِفُهَا الثَّانِيَةُ وَهِيَ مُبَانَةٌ (وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ
الْوَاقِعَ عِنْدَ أَنْتِ طَالِقٌ مَصْدَرٌ هُوَ تَطْلِيقٌ يَثْبُتُ مُقْتَضًى وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْعَدَدِ وَطَلَاقُهَا أَثَرُهُ، وَبِهِ دُفِعَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً لِبَيْنُونَتِهَا بِطَالِقٍ وَلَا يُؤَثِّرُ الْعَدَدُ شَيْئًا. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ قَالَ: إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جَمِيعًا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَثِمَ بِرَبِّهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَلَا يُنَافِي قَوْلَ الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ يَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَكَوْنِهِ وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْكُلِّ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ) وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ لِيَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ فَلَمْ يَقَعْ بِطَالِقٍ الْأَوَّلِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ بِالْوَاوِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ يُغَيِّرُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ إذْ الْحَاصِلُ بِهِ كَالْحَاصِلِ بِطَالِقٍ ثَلَاثًا، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ تَبِينُ بِوَاحِدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الصَّدْرُ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
قُلْنَا: الْجَمْعُ الَّذِي يُبَايِنُ التَّفْرِيقَ حُكْمًا هُوَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْمُغَيِّرِ لَهُ كَلَفْظِ ثَلَاثًا وَنَحْوَهُ، وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ لِجَمْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَعِيَّةِ وَعَلَى تَقَدُّمِ بَعْضِ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا فِي تَعَلُّقِ مَعْنَى الْعَامِلِ بِهِ وَتَأَخُّرِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَمِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى تَرَتُّبِ الْمُتَعَاطِفَاتِ عَلَى التَّرَتُّبِ اللَّفْظِيِّ، وَعَكْسُهُ أَفْرَادُهُ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَيْسَ لِلْوَاوِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ بَلْ تَصْدُقُ مَعَهُ كَمَا تَصْدُقُ مَعَ التَّعَاقُبِ فِي التَّعَلُّقِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا بِالضَّرُورَةِ ذِكْرَ مُغَيِّرٍ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّغْيِيرَ وَهُوَ الْمَعِيَّةُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِتَوَقُّفِ الصَّدْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهَا فِي التَّرْكِيبِ لِلْمَعِيَّةِ. وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ إلَّا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ الْمَعِيَّةُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ التَّعَاقُبُ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ، وَبِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ يَعْمَلُ كُلُّ لَفْظٍ عَمَلَهُ فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِلتَّرْتِيبِ. فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ: لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ لَزِمَ اعْتِبَارُهَا لِلتَّرْتِيبِ.
وَأَمَّا وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَوُقُوعُ الثِّنْتَيْنِ فِي قَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ لِلتَّوَقُّفِ بِسَبَبِ إيجَابِ الْوَاوِ الْمَعِيَّةَ بَلْ لِأَنَّهُ أَخَصْرُ مَا يُلْفَظُ بِهِ إذَا أَرَادَ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute