وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا (وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى شَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَ الشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ
كَالْعِتْقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ، وَمَا ظُنَّ مَانِعًا مِنْ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى النِّكَاحِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ فَيَلْغُو، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوُصْلَةِ وَانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَمْلِكُ جَعْلَهُ سَبَبًا لِانْقِطَاعِهَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فَتَعْلِيقُهُ بِهِ مُبَادَرَةٌ إلَى الْمَطْلُوبِ.
أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَحْظُورٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ غَلَطٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ كَمَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْوَصْلَةِ بِالدُّخُولِ كَذَلِكَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَدْعُو إلَى تَزَوُّجِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ حَالِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا وَيَخْشَى لَجَاجَتَهَا وَغَلَبَتَهَا عَلَيْهِ فَيُؤَيِّسُهَا بِتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِنِكَاحِهَا فِطَامًا لَهَا عَنْ مَوَاقِعِ الضَّرَرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُشْرَعَ كَمَا شُرِعَ تَعْلِيقُهُ بِخُرُوجِهَا لِيَفْطِمَهَا عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَهُوَ تَكَلُّمُهُ بِالتَّعْلِيقِ لِمَا يَصِحُّ بِلَا مَانِعٍ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ لِمَا سَيُذْكَرُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَمَّا مَا قَبْلَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرِينَ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ، أَمَّا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ فَلَيْسَ بِهِ بَلْ لَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ (وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَكُلُّ أُمَّةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ هُوَ كَمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: أَوَ لَيْسَ قَدْ جَاءَ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إلَّا بَعْدَ مِلْكٍ» قَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: امْرَأَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَعَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَغَيْرُهُمَا) تَصْرِيحٌ بِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ الْحَصْرِ خُصُوصًا بَعْدَ قَوْلِهِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ يُعْطِي أَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ غَيْرِهِمَا أَيْضًا.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سَالِمٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَسْوَدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُولٍ الشَّامِيِّ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ يَوْمَ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ قَالُوا هُوَ كَمَا قَالَ. وَفِي لَفْظٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَدْ نُقِلَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَشُرَيْحٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْأَخِيرَانِ فَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِهِمَا. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: إنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَفِي الْأَوَّلِ أَبُو خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: وَضَّاعٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ، وَفِي الْأَخِيرِ عَلِيُّ بْنُ قَرِينٍ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ، بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي شَيْخُ السُّهَيْلِيِّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ وَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الصِّحَّةِ، وَلِذَا مَا عَمِلَ بِهَا مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَمَا قِيلَ: لَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُهَا حَتَّى يُتْرَكَ الْعَمَلُ بِهَا سَاقِطٌ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فَرْعُ صِحَّةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا، كَيْفَ وَمَعَ عَدَمِ تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute