وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِفُلَانِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يَبْقَى التَّكَلُّمُ بِالْبَعْضِ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ لِيَصِيرَ مُتَكَلَّمًا بِهِ وَصَارِفًا لِلَّفْظِ إلَيْهِ،
لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ مِائَةٌ إلَّا ثُمُنًا وَسُدُسَ ثُمُنٍ وَسَائِرَ الْكُسُورِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَرِدْ بِالصَّدْرِ.
فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَوْلُهُمْ إخْرَاجٌ عَنْ الصَّدْرِ إلَى آخِرِهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِخْرَاجِ مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي سَبْقَ الدُّخُولِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي التَّنَاوُلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُفِيدُ الْإِخْرَاجَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ بَعْلَةِ وَضْعِهِ لِتَمَامِ الْمَعْنَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مُطْلَقًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي الْإِرَادَةِ بِالْحُكْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ نَسْخًا، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ مِنْ الْإِخْبَارَاتِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إرَادَةِ عُمُومِ الصَّدْرِ بِالْحُكْمِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ، أَوْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُنْتَفِيَ، أَوْ غَالِطًا فِي أَحَدِهِمَا وَيَسْتَحِيلَانِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ بَيَانُ أَنَّ مَا بَعْدَ إلَّا لَمْ يَرِدْ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ مُرَادًا بِالصَّدْرِ: أَعْنِي الْعَامَّ أَوْ الْكُلَّ، ثُمَّ أَخْرَجَ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي، أَوْ أُرِيدَ ابْتِدَاءً بِالصَّدْرِ مَا سِوَى مَا بَعْدَ إلَّا وَإِلَّا قَرِينَتُهُ خِلَافٌ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَاصِلَ تَرْكِيبِ الِاسْتِثْنَاءِ تَكَلُّمُهُ بِالْبَاقِي: أَيْ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَحَقَّقْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أُرِيدَ عَشَرَةٌ وَحُكِمَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، فَإِرَادَةُ الْعَشَرَةِ بِعَشَرَةٍ بَاقٍ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ بِزِيَادَةِ تَكَلُّفٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْقِيقِ دَلَالَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً اسْمًا مُرَكَّبًا لِمَعْنَى سَبْعَةٍ كَمَا نُسِبَ إلَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ، عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، بَلْ مُرَادُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَعَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً.
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إخْرَاجٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ فِي الْإِخْبَارِ مَا ذَكَرْنَا، وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ أَنَّ الْمُخَصَّصَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا، أَوْ قَالُوهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حُكْمَيْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَثَلًا فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ بِالْإِثْبَاتِ وَبَعْدَ إلَّا بِالنَّفْيِ، لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا حَقِيقَةَ لِلْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا، وَحِينَئِذٍ فَالثَّابِتُ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حُكْمِ الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَ إلَّا، وَتَرَجَّحَ الثَّانِي فَيَجِبُ حَمْلُ الْمَرْجُوحِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ لِكُلِّ مُعَارَضَةٍ تَرَجَّحَ فِيهَا أَحَدُ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ فِي الصَّدْرِ إلَّا عَلَى سَبْعَةٍ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ) قِيلَ: لِأَنَّهُ رُجُوعٌ بَعْدَ التَّقَرُّرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ فِيمَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَيْضًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute