حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ،
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ) بِرَفْعِ (يَثْبُتُ) لِأَنَّ حَتَّى هُنَا لَيْسَتْ لِلْغَايَةِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْلِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ مِثْلُهُ، ثُمَّ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلِذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَتْ لَمْعَةٌ انْقَطَعَتْ، وَكَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَمْ تَتَيَمَّمْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ فَانْقِطَاعُهَا بِالتَّيَمُّمِ وَبِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ أَوْلَى.
وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِآخَرَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ قَامَ مَقَامَ الْغُسْلِ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّزَوُّجِ عَدَمُ جَوَازِهِ مَعَهُ وَفِي الرَّجْعَةِ انْقِطَاعُهَا مَعَهُ حَتَّى لَا يَأْتِيَهَا رَجُلٌ فِي شُبْهَةٍ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوِّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ) أَيْ حَقِيقَةً لَا شَرْعًا كَذَا فِي الدِّرَايَةِ.
وَلْنُفَصِّلْ هَذَا الْمَقَامَ لِيَنْدَفِعَ مَا يُخَالُ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ لِلْأَوْهَامِ مُسْتَعِينًا فِيهِ بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِنَا نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَنَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ لَهُ ثَلَاثَةُ مَوَارِد فِي الْفِقْهِ: أَوَّلُهَا بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ أَوْ لَا، فَقَالَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ بِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا فِي جَوَابِهِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَاءِ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ.
وَصَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ وَهُوَ الْعَدَمُ كَالْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ بِالْمَاءِ مُقَدَّرٌ إلَى وُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُنَا إلَى شَيْئَيْنِ الْحَدَثِ وَالْمَاءِ.
ثَانِيهَا بَابُ الْإِمَامَةِ فِي مَسْأَلَةِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فَافْتَرَقُوا فِيهَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، وَقَالَا: مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ.
وَثَالِثُهَا هُنَا فَافْتَرَقُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا كَلِمَتَهُمْ، فَتَرَاءَى لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ فِي الْإِمَامَةِ ضَرُورِيَّةٌ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ بَعْدَمَا قَالَ فِي الْإِمَامَةِ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ قَالَ هُنَا مُطْلَقَةٌ.
وَلَهُمَا وَجْهٌ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا هُنَاكَ مُطْلَقَةٌ وَهُنَا ضَرُورِيَّةٌ مُلَوِّثَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّارِحِينَ يَأْخُذُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ بِيَقِينٍ، وَلِهَذَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حَدَثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَقَدْ نَاقَضُوا جَمِيعًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّيَمُّمِ جِهَةَ الْإِطْلَاقِ وَجِهَةَ الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ فِي نَفْسِهِ مُغَبَّرٌ لَا يُطَهِّرُ: أَيْ لَا يُنَظِّفُ، فَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا كَالْمَاءِ إلَى غَايَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ وُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ الْمَاءِ، وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ وَعَدَمُ تَفْوِيتِهَا وَتَكْثِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إكْرَامًا لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ وَأُمَّتِهِ، وَلِذَا كَانَ مِنْ الْخَصَائِصِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ بَيَانُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ.
وَلَمَّا شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا شُرِعَ كَمَا شُرِعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ضَعْفَهُ وَانْحِطَاطَهُ عَنْ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُلَوَّثًا وَمُغَبَّرًا فَهُوَ بِسَبَبِ عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ ابْتِدَاءً كَالْمَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوُضُوءِ تَحْسِينَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْظِيفَهَا لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَالتُّرَابُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ ضِدُّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ تَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَذِكْرُ التَّلْوِيثِ وَعَدَمِ تَطْهِيرِهِ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ سَبَبِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ.
إذَا عَلِمْت هَذَا فَقَوْلُهُمْ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ: أَيْ تُزِيلُ الْحَدَثَ، وَيُسْتَبَاحُ بِهِ كُلُّ مَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ عَلَى