(وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ)
مَحْظُورٍ كَقَاتِلِ الْمُوَرِّثِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فَالْحِلُّ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ اعْتَرَضَ عَدَمَهُ مُغَيًّا بِنِكَاحٍ زَوْجٍ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ يَنْتَهِي الْمَنْعُ الْمُغَيَّا فَيَثْبُتُ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلْبَتَّةَ، فَحَيْثُ حُكِمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مَعَ الدُّخُولِ لَزِمَ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ الْحِيَلِ إذَا خَافَتْ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا الْمُحَلِّلُ أَنْ تَقُولَ زَوَّجْتُك نَفْسِي عَلَى أَنَّ أَمْرِي بِيَدِي أُطَلِّقُ نَفْسِي كُلَّمَا أُرِيدُ، فَإِذَا قِيلَ عَلَى هَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الشَّرْطُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْمُحَلِّلُ مِنْ الطَّلَاقِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ فِي رَوْضَةِ الزندويستي ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَلَا يُحْكَمَ بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَوْنِهِ ضَعِيفَ الثُّبُوتِ تَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَالْعُقُودُ فِي مِثْلِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا مَا يَبْطُلُ فِيهِ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْأَصْلُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ هُوَ، فَيَجِبُ بُطْلَانُ هَذَا وَأَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الطَّلَاقِ.
نَعَمْ يُكْرَهُ الشَّرْطُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَحْمَلِ الْحَدِيثِ، وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَصْدُ التَّحْلِيلِ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَمَا أَوْرَدَهُ السُّرُوجِيُّ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا فِي غَيْرِ مَحِلِّ كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزَّوْجِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ مُتَدَاوَلٌ، إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ وَصَارَ مَشْهُورًا بِهِ.
وَهُنَا قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَأْجُورٌ وَإِنْ شَرَطَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَتَأْوِيلُ اللَّعْنِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ.
هَذَا، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْ وَاقِعَةِ حَالٍ مُفْرَدَةٍ لِشَخْصٍ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَنَّ تَعَلُّقَ اللَّعْنِ بِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ شَرَطَ أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ مِنْ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَهُوَ التَّكْثِيرُ فِي فِعْلِ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ، فَلَوْ أَرَادَ تَعْلِيقَ اللَّعْنِ بِهِ بِمَرَّةٍ إذَا شَرَطَ لَقَالَ الْمُحِلُّ مِنْ أَحَلَّهَا بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَصْرِفُ عَنْ هَذَا فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَطَّعْت اللَّحْمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكْثِيرٌ
(قَوْلُهُ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ) يَعْنِي إذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَهْدِمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُرَّةِ لِوَضْعِهَا فِي هَدْمِ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَمَةِ إلَّا هَدْمُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا لِأَنَّهُ لَا هَدْمَ فِي الْأَمَةِ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَهْدِمُ) وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ