. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التَّعَاقُبِ فَتَعَذَّرَ إرَادَتُهَا، وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إلَى حَقِيقَةِ مَا يَعْقُبُ فَرَاغَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ فَاعْتَبَرْنَاهُ وَبِهِ نَقُولُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حُرْمَتِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُمَا لَا يَأْتَلِفَانِ بَعْدَ اللَّعْنِ فَلَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي ذَلِكَ بَلْ وَلَا ظَاهِرٍ، بَلْ يَجُوزُ حُدُوثُ الْأُلْفَةِ بَعْدَ غَايَةِ الْعَدَاوَةِ كَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْعَدَاوَةِ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَقْتَضِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَلْ يُوجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، فَإِنَّهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، كَمَا فِيمَا إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ فَإِنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالتَّسْرِيحِ أَوْ التَّكْفِيرِ إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ هُنَا لَا يَنْتَهِي بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ الطَّلَاقُ فَيَنْحَصِرُ أَمْرُهُ فِيهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ مَنَابَهُ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَفَرَّقَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ».
وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ «لَمَّا فَرَغَا مِنْ لِعَانِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ». وَهُوَ الَّذِي عَنَى الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ لِذَلِكَ الْمُلَاعِنِ إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلِمْت أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ وَكَذَبْت بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَقَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُنَّةً». «قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا». قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ عُوَيْمِرًا حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ فَصَارَ كَمَنْ شَرَطَ الضَّمَانَ فِي السَّلَفِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَتَفْرِيقُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ لَا لِفُرْقَةِ الزَّوْجِ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَهْلٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: أَيْ الْفُرْقَةُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ ﵄ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ قَالَ: «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ تَطْلِيقَهُ، وَقَوْلُهُ ﷺ «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» إنَّمَا هُوَ إنْكَارُ طَلَبِ مَالِهِ مِنْهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْت صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» فَدَلَّ تَفْرِيقُهُ ﷺ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا فَالسُّكُوتُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ، وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إلَى الْمَفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَقْرِيرَ وُقُوعِهِ الْآنَ فَيَسْتَلْزِمُ فِيمَا لَوْ فُرِضَ عَدَمُ طَلَاقِهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ الطَّلَاقَ حَتَّى اعْتَرَضَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَوْ تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ قَبْلَ طَلَاقِهِ وَطَلَاقِ الْقَاضِي حَتَّى ظَنَّ حِلَّهَا فَيُجَامِعُهَا قَبْلَ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَتَوْرِيثِ الْآخَرِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إلَى مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ دَفَعَ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ فِيهَا وُقُوعُ الْمَوْتِ يَسِيرَةٌ جِدًّا إذْ الْفَرْضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ هُوَ وَالْمَوْتُ فِي مِثْلِهَا أَنْدَرُ نَادِرٍ.
قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَرْكٌ هُوَ عَلَامَةُ حُكْمٍ وَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَعْنِي أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ رَفَضَ إمْضَاءَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute