قَالَ: (الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ
فَقَدَّمَهُ عَلَى الْيَمِينِ.
وَلَفْظُ الْيَمِينِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِحَةِ وَالْقَسَمِ وَالْقُوَّةِ لُغَةً، وَالْأَوَّلَانِ ظَاهِرَانِ. وَشَاهِدُ الْقُوَّةِ قَوْله تَعَالَى ﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ وَقِيلَ الْحُطَيْئَةُ:
رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو … إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ … تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالْقُوَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِالْإِقْسَامِ عَلَى الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِأَيْمَانِهِمْ عِنْدَ الْقَسَمِ فَسَمَّيْت بِذَلِكَ. يُفِيدُ أَنَّهُ لَفْظٌ مَنْقُولٌ وَمَفْهُومُهُ اللُّغَوِيُّ جُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ صَرِيحَةُ الْجُزْأَيْنِ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً بَعْدَهَا خَبَرِيَّةً، وَتَرْكُ لَفْظِ أُولَى يُصَيِّرُهُ غَيْرَ مَانِعٍ لِدُخُولِ نَحْوِ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَكَّدَةُ بِالثَّانِيَةِ مِنْ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَجُمْلَةٌ أَعَمُّ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ كَحَلَفْتُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ أَحْلِفُ وَالِاسْمِيَّةُ مُقَدَّمَةُ الْخَبَرِ كَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مُؤَخَّرَتُهُ نَحْوُ لَعَمْرُك لَأَفْعَلَنَّ، وَهُوَ مِثَالٌ أَيْضًا لِغَيْرِ الْمُصَرَّحِ بِجُزْأَيْهَا وَمِنْهُ وَاَللَّهِ وَتَاللَّهِ، فَإِنَّ الْحَرْفَ جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْفِعْلِ.
وَأَسْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى التَّوْكِيدِيِّ سِتَّةٌ: الْحَلِفُ، وَالْقَسَمُ وَالْعَهْدُ، وَالْمِيثَاقُ وَالْإِيلَاءُ، وَالْيَمِينُ. وَخَرَجَ بِإِنْشَائِيَّةٍ نَحْوَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. فَإِنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ إنْشَاءً فَلَيْسَتْ التَّعَالِيقُ أَيْمَانًا لُغَةً، وَأَمَّا مَفْهُومُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ فَجُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ مُقْسَمٌ فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ وَمُؤَكَّدٌ بِهَا مَضْمُونُ ثَانِيَةٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ ظَاهِرًا وَتَحْمِلُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا فَدَخَلَتْ بِقَيْدٍ ظَاهِرٍ الْغَمُوسُ أَوْ الْتِزَامُ مَكْرُوهِ كُفْرٍ أَوْ زَوَالُ مِلْكٍ عَلَى تَقْدِيرٍ؛ لِيَمْنَعَ عَنْهُ أَوْ مَحْبُوبٍ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ فَدَخَلَتْ التَّعْلِيقَاتُ مِثْلَ إنْ فَعَلَ فَهُوَ يَهُودِيُّ وَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ بِضَمِّ التَّاءِ لِمَنْعِ نَفْسِهِ وَبِكَسْرِهَا لِمَنْعِهَا وَإِنْ بَشَّرْتَنِي فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَسَبَبُهَا الْغَائِيُّ تَارَةً إيقَاعُ صِدْقِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَتَارَةً حَمْلُ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، فَبَيْنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِتَصَادُقِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَانْفِرَادُ اللُّغَوِيِّ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ، وَانْفِرَادُ الِاصْطِلَاحِيِّ فِي التَّعْلِيقَاتِ. ثُمَّ قِيلَ: يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِقَوْلِهِ ﷺ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَأَمَّا شَرْطُهَا فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، وَحُكْمُهَا الَّذِي يَلْزَمُ بِوُجُودِهَا وُجُوبُ الْبِرِّ فِيمَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ فَيَثْبُتُ وُجُوبَانِ لِأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْبِرُّ، وَوُجُوبُ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى ضِدِّهِمَا أَوْ نَدْبُهُ فِيمَا إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَائِزًا وَسَيَأْتِي.
وَإِذَا حَنِثَ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الْحِنْثُ أَوْ يَحْرُمُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. (قَوْلُهُ: الْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: يَمِينُ الْغَمُوسِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute