وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ.
وَاحِدَةٌ.
أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تُبَدَّلُ بِهَا بِمَعْنَى أَنْ تُوضَعَ مَكَانَهَا دَالَّةً عَلَى عَيْنِ مَدْلُولِهَا، وَفِي الْآيَتَيْنِ الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ أَيْ صَدَقْتُمُوهُ وَانْقَدْتُمْ إلَيْهِ طَاعَةً ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ لَا يُفِيدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ سَلَّمَ فَكَوْنُهَا وَقَعَتْ صِلَةَ فِعْلٍ خَاصٍّ كَذَلِكَ وَهُوَ آمَنْتُمْ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ فِعْلٍ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ مَعْنَى ذَلِكَ الْفِعْلِ يَتَأَتَّى مَعْنَاهُمَا فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي الْقَسَمِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ اللَّامُ إلَّا فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسِ: دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ. وَكَقَوْلِهِمْ: لِلَّهِ لَا يُؤَخَّرُ الْأَجَلُ، فَاسْتِعْمَالُهَا قَسَمًا مُجَرَّدًا عَنْهُ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يُتَعَارَفَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَارِ احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ وَتَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ فَائِدَةَ هَذَا الِاحْتِرَازِ؛ لِأَنَّ لَفْظًا فِي الْمُخْتَارِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا كُلِّهَا فَكَانَ الْوَاقِعُ لَهُمْ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ.
هَذَا وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَنْ يُعْرِبَ الْمُقْسِمَ بِهِ خَطَأً أَوْ صَوَابًا أَوْ يُسَكِّنَهُ خِلَافًا لِمَا فِي الْمُحِيطِ فِيمَا إذَا أَسْكَنَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ مَعْقُودًا بِمَا أُرِيدَ مَنْعُهُ أَوْ فِعْلُهُ ثَابِتٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ فِي اللَّفْظِ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: إذَا قَالَ وَحَقُّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنْ يَكُونَ يَمِينًا) يَعْنِي إذَا أُطْلِقَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عُدَّ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (وَهُوَ حَقِيَتُهُ) أَيْ كَوْنُهُ تَعَالَى ثَابِتُ الذَّاتِ مَوْجُودُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْحَقِّ (وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ) فَوَجَبَ كَوْنُهُ يَمِينًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: يَعْنِي فِي عَدَمِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى الْيَمِينِ فَانْصَرَفَ الْحَقُّ إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَصَارَ كَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ: وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ حَقَّ اللَّهِ (يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ) وَصَارَ ذَلِكَ مُتَبَادَرًا شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَا يُتَبَادَرُ سِوَاهُ إذْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْطِرُ مِنْ ذِكْرِهِ وُجُودُهُ وَثُبُوتُ ذَاتِهِ، وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ حَلِفٌ بِغَيْرِهِ وَغَيْرِ صِفَتِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالْمَعْدُودُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هُوَ الْحَقُّ الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ تَرْجِيحُ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ، وَبِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينًا لِلتَّعَارُفِ فَبِحَقِّ اللَّهِ كَذَلِكَ لِلتَّعَارُفِ. فَإِنَّ التَّعَارُفَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ كَوْنِ الصِّفَةِ مُشْتَرَكَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ حَقٍّ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مَا هُوَ صِفَةُ اللَّهِ بَلْ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ فَصَارَ نَفْسَ وُجُودِهِ وَنَحْوُهُ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ.
، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لِلنَّبِيِّ ﵊ «مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» إلَى آخَرِهِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الشَّارِحِينَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ صِلَتَهُ بِلَفْظِ عَلَى الْعِبَادِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ أَنَّهُ غَيْرُ وُجُودِهِ وَصِفَتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ حَقٍّ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ. كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَاعْتَرَضَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute