(وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ
وَتَبْلُغُ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ قِيمَةَ مَا ذَكَرْنَا أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِالْإِطْعَامِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْإِجْزَاءِ عَنْ الْإِطْعَامِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عَنْ الْإِطْعَامِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْ الْإِطْعَامِ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِيهِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ ﷺ «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَإِذَا لَمْ يَنْوِ عَنْ الْإِطْعَامِ لَا يَقَعُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَفِّرَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثٍ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهَا صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ ابْتِدَاءً وَتَنَحَّى الْآخَرَانِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَصَحِيحٌ وَبِهِ نَقُولُ، وَقَوْلُهُ ﷺ «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» دَلِيلُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُؤَدِّي طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً إلَى كَوْنِهِ كَفَّارَةً إلَّا بِنِيَّةٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ وَالتَّكْفِيرَ بِالْكِسْوَةِ مَثَلًا فَمَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ التَّكْفِيرُ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهَا مُتَعَلَّقُ الْوَاجِبِ وَهُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، فَإِذَا دَفَعَ أَحَدَهَا نَاوِيًا الِامْتِثَالَ فَقَدْ تَمَّ الْوَاجِبُ سَوَاءٌ كَانَ يَصِحُّ إطْعَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ السُّقُوطُ عَلَى أَنْ يَنْوِيَ بِدَفْعِ أَحَدِهَا أَنَّهُ عَنْ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكْفِ لِنَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ خَصْلَةٍ فِي نَفْسِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْإِطْعَامِ أَنَّهُ إطْعَامٌ وَفِي دَفْعِ الثَّوْبِ أَنَّهُ كِسْوَةٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ نِيَّةُ الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ إذَا كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْإِسْقَاطِ بِوَجْهٍ وَقَدْ نَوَى الْإِسْقَاطَ فَانْصَرَفَ إلَى مَا بِهِ الْإِسْقَاطُ فَظَهَرَ ضَعْفُ كَلَامِ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُخْتَارًا لِلْكِسْوَةِ إذَا دَفَعَ مَا لَا يَسْتَقِيمُ كِسْوَةً مَمْنُوعٌ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ لَا يُجْزِي عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جِنْسَ الْكَفَّارَةِ فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ مُتَّحِدٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَهُوَ سَدُّ حَاجَةِ الْبَطْنِ مِنْ التَّغَذِّي فَلَا يُدْفَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَالْقَمْحِ عَنْ الشَّعِيرِ. بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِدَفْعِ حَاجَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ دَفْعِ حَاجَةِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَدَفْعِ حَاجَةِ التَّغَذِّي فَجَازَ جَعْلُ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَوْرِدِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا صَغِيرًا نَفِيسًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَوْبَ كِرْبَاسَ يُجْزِي عَنْ الْكِسْوَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْزِيَهُ عَنْ الْكِسْوَةِ بَلْ عَنْ الْإِطْعَامِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْزِيهِ بِالْمَالِ) دُونَ الصَّوْمِ (لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ) وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي النَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾ وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْمُضَافِ الْوَاقِعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ مُتَعَلِّقُهُ.
كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ، وَإِذَا ثَبَتَ سَبَبِيَّتُهُ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَرْطٌ. وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ثَابِتٌ شَرْعًا، كَمَا جَازَ فِي الزَّكَاةِ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ، وَكَمَا فِي تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجَرْحِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالسَّرَايَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْمَالُ وَالصَّوْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ: يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ الْوَاجِبِ بَعْدَ السَّبَبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُعْرَفْ شَرْعًا إلَّا فِي الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute