فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ.
فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ مُطْلَقًا صَوْمًا كَانَ أَوْ مَالًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّقْدِيمِ كَمَا سَيُذْكَرُ (وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ) مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ قَالَ الْقَائِلُ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
وَبِهِ سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ (وَلَا جِنَايَةَ) قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا أَقْدَمَ النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ وَكَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا إذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكَلَامَ مَخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إخْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ لَا، وَالْمَدَارُ تَوْفِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ، وَالْيَمِينَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ وَالْيَمِينُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْضِيًا إلَيْهِ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ تَحَقُّقُهُ اتِّفَاقًا لَا عَنْ الْيَمِينِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ نَفْسَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ نَفْسُ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ فَإِنَّهُ مُفْضٍ إلَى التَّلَفِ فَلَزِمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ الْمَذْكُورَةَ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشَّرْطِ جَائِزَةٌ وَثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْحِنْثَ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ، وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ فَلَا يَقَعُ التَّكْفِيرُ وَاجِبًا قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهَذَا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَقَعَ الشَّرْعُ عَلَى خِلَافِهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْجُرْحِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ فَلَا يُلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِهِ فِي قَوْلِهِ ﷺ «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» قُلْنَا: الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ ﷺ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ إلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُد قَالَ فِيهِ «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ فَيُنْزَلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، إلَى أَنْ قَالَ: إلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute