(وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)
ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَذَرَ الْكَافِرُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ، وَبِقَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَالَ مَالِكٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِإِيجَابِهِ دُونَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لَهَا، وَصَارَ كَالْعَبْدِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إحْدَى الْخِصَالِ، فَكَذَا هَذَا لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ تَعَيَّنَ مَا سِوَاهُ، وَأَيْضًا هُوَ أَهْلٌ لِلْبِرِّ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَيَمْتَنِعُ عَنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَهُ بِهِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ الْعِبَادَةِ كَالْعِتْقِ لِلشَّيْطَانِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ مُجَرَّدَ إسْقَاطِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ سَمْعٌ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْمًا، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ»
وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ ﷺ: «تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ فَيَعْنِي صُوَرَ الْأَيْمَانِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا.
وَالْحَاصِلُ لُزُومُ تَأْوِيلٍ إمَّا فِي ﴿لا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ لَا إيفَاءَ لَهُمْ بِهَا أَوْ فِي ﴿نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ صُوَرُ الْأَيْمَانِ دُونَ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ وَتَرَجَّحَ الثَّانِي بِالْفِقْهِ، وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ عِبَادَةً يُجْبَرُ بِهَا مَا ثَبَتَ مِنْ إثْمِ الْحِنْثِ إنْ كَانَ، أَوْ مَا وَقَعَ مِنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إقَامَةً لِوَاجِبِهِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِفِعْلِ عِبَادَةٍ.
وَقَوْلُهُمْ إيجَابُ الْمَالِ وَالْعِتْقِ يُمْكِنُ تَجْرِيدُهُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَالِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيجَابُهُمَا، وَالْكَلَامُ فِي إيجَابِهِمَا كَفَّارَةً، وَإِيجَابُهُمَا كَفَّارَةً لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَمَّا ذَكَرْنَا، إذْ لَوْ فُصِلَ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةً لِأَنَّ مَا شُرِعَ بِصِفَةٍ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِلَّا فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ ﷺ «تُبَرِّيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» فَالْمُرَادُ كَمَا قُلْنَا صُوَرُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا رَجَاءُ النُّكُولِ، وَالْكَافِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ شَرْعًا الْيَمِينُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِحُكْمِهِ فَهُوَ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ بِهِ كَاذِبًا فَيَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ فَشُرِعَ الْتِزَامُهُ بِصُورَتِهَا لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ.
وَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهُ مَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَعْظِيمًا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجَازَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ كَاللَّجَاجِ وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ قُرْبَةً مُسْتَأْنَفَةً فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ دَعَا إلَى هَذَا الْعِلْمُ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ فَلَيْسَ أَهْلًا لِالْتِزَامِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَتَصْحِيحُ الِالْتِزَامِ ابْتِدَاءً يُرَادُ لِفِعْلِ نَفْسِ الْمُلْتَزِمِ. لَا لِإِضْعَافِ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُ لَيْسَ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إلَى رَبِّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ بِنَذْرِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ فَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ) كَهَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الطَّعَامُ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ أَوْ الدَّابَّةُ (لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وَلَيْسَ مِلْكُهُ شَرْطًا لِلُزُومِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ جَازَ فِي نَحْوِ: كَلَامُ زَيْدٍ عَلَيَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute