(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ.
نَفْسُ الْكَرْعِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ فَيَعُمُّ الْكَرْعَ وَغَيْرَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ كَيْفَمَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَلْقَى وَأَدْخَلَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ دُخُولًا وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلْكَلَامِ الْكَرْعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ يَفْعَلُونَهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ ﵊ «أَنَّهُ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُسْتَعْمَلًا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً فَيَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَمَّا لَمْ تُهْجَرْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا، إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ حَنِثَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَا إهْدَارُ هَذَا الْقِسْمِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْكَرْعَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَالْمَعْنَى ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ نَفْسِ دِجْلَةَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَيْهَا نَفْسِهَا، فَإِذَا وَضَعَ الْفَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ كُوزٍ وَنَحْوِهِ فِيهِ مَاؤُهَا لَمْ يُصَدِّقْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهُوَ وَضْعُ فَمِهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَمَّا مَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَا أَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، إذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ دِجْلَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى لِأَنَّ نَفْسَ دِجْلَةَ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمَشْقُوقَةُ نَهْرًا لَيْسَ مِمَّا يُشْرَبُ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجَازُ دِجْلَةَ وَهُوَ مَاؤُهَا صَحَّتْ لِلتَّبْعِيضِ وَيَصِيرُ الْمُرَادُ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَهُوَ نَفْسُ قَوْلِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَاءُ دِجْلَةَ، وَعَلَى هَذَا فَيُتَّجَهُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ: وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ انْصَرَفَ إلَى الْمَشْهُورِ مِنْهُ وَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ لِلْبَيَانِ بِأَنْ يُقَالَ وَضْعُ الْفَمِ عَلَى نَفْسِ دِجْلَةَ لَا يُفْعَلُ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لِلِابْتِدَاءِ فَلَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ دِجْلَةَ مَاؤُهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ.
فَالْمَعْنَى: لَا يَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ وَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَيَحْنَثُ بِشُرْبِ مَائِهَا كَرْعًا وَغَيْرَهُ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا بِالْيَدِ يُخَالِفُ الشُّرْبَ مِنْهُ فَغَلَطٌ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالِاتِّصَالُ أَوْلَى إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اُبْتُلُوا بِتَرْكِ الشُّرْبِ مِنْ النَّهْرِ شُرْبَ كِفَايَةٍ وَرِيٍّ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مُطْلَقًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَافِيًا فَلَيْسَ مِنِّي إلَّا مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَدْرَ كَفِّهِ تَحْقِيقًا بِأَنَّ اغْتَرَفَهَا. وَاَلَّذِي انْتَظَمَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا فِي الدَّرْسِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ النَّهْرِ دُونَ الْمَاءِ.
وَإِرَادَةُ وَضْعِ فَمِهِ عَلَى نَفْسِ أَجْزَائِهِ مُنْتَفٍ، فَالْمُرَادُ لَيْسَ إلَّا وَضْعُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ الِاسْمِ حَقِيقَةً فِيهِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ فُرِضَ مُشْتَرَكًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ: أَعْنِي مَجْمُوعَ التَّرْكِيبِ بِوَضْعِ الْفَمِ فِي مَائِهَا حَالَ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ فُرِضَ مَجَازًا فِي هَذَا الْمَاءِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ إلَخْ أَنَّ التَّرْكِيبَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْلِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلَا أَشْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِدِجْلَةَ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَائِنُ فِي النَّهْرِ الْخَالِصِ وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَشْرَبُ بَعْضَ دِجْلَةَ: أَيْ الْمَاءَ الْخَاصَّ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ، فَظَهَرَ إمْكَانُ كَوْنِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute